بداية أقر وأعترف بأن لا علاقة لي من قريب أو بعيد بعائلة بوتو الباكستانية، ولم يسبق لي أن زرت باكستان، وليست لي ميول مؤيدة لهذا الجناح السياسي أو ذاك ممن يتصارعون على السلطة فيها.
أقول ذلك لأنني حين سمعت وتابعت مع ملايين المشاهدين نبأ اغتيال بنازير بوتو، أعادني الخبر المؤلم إلى قصة إعدام والدها وإلى معلمة المواد الاجتماعية الجميلة في المرحلة الإعدادية، وهي قصة ترقد في ذاكرتي منذ أكثر من 28 سنة، قصة تجمع بين شغف طفولة بأحداث عظمى تجري في العالم الكبير حوله، وبين معلمة هادئة وناعمة تشبه بطلات الأفلام، شاء حظها أن تعمل في تدريس مادة (التاريخ) في قرية صغيرة، تأتيها كل صباح بالقطار متأنقة بملابس متناسقة الألوان (جوب وبلوزة)، وتضع على شفتيها الرقيقتين أحمر شفاه خفيفاً، ونسمع وقع حذائها بين الفصول فنتنافس على إظهار الذوق والصمت، ونتطلع طوال الحصة إلى أن تنادينا بأسمائنا
وسعيد الطالع من تذكره بالاسم فيتباهى بذلك على أقرانه طوال عودته عبرالطرقات الترابية الموصولة بالبيوت. في ذلك الوقت جمع بين طفولتي والمعلمة إعجاب مشترك، كان من ناحيتي إعجاب طفل بامرأة من عالم غريب، امرأة جميلة ناعمة، دقيقة الملامح، تجيء من مدينة بعيدة مضاءة بالكهرباء ومملوءة بالسيارات ودور السينما، كان الطفل مهووساً بها كجنية خرجت له من صندوق التليفزيون الصغير، لكنها خرجت بثياب وشفاه وعيون ملونة وليست أبيض وأسود كصورة تليفزيون البيت، وكان إعجابها بالطفل عائداً لأسئلته الكبيرة، لجنونه بأسماء الكتب وقصص الأبطال التاريخيين، وحفظه المسبق لموضوع درس التاريخ القادم، كان التاريخ بالنسبة له روايات وشخوصاً وتحولات مدهشة، وخزانة كبيرة لأبطال تجاوزوا المحن أو سقطوا فيها بلا نجاة. كان التاريخ بالنسبة له شريطاً سينمائياً مقروءاً، وعلى الطفل الصغير أن يطلق خياله ويرسم صورة الأماكن والشخصيات، وفي ضيق المكان تتجسد صورته وذاته في هذا البطل أو ذاك. ربما لكل هذا تعلق الطفل بمعلمته التي تترك له وحده كل يوم الجريدة التي تجيء بها مطوية في حقيبتها، تنادي عليه لتضع الجريدة في يده قبل انتهاء اليوم الدراسي، فيعود بها الصغير إلى البيت وعلى صفحاتها بقايا عطرها، وهكذا وقعت عيناه على قصة ذو الفقار علي بوتو الرئيس الباكستاني الأسبق ووالد بنازير بوتو، كان وقتها سجيناً ينتظر الحكم عليه بالإعدام بعد انقلاب الجنرال ضياء الحق واستيلائه على السلطة، لم يكن الطفل يعنيه الصراع وتحولاته، بل كانت النداءات الدولية بالعفو عن (ذو الفقار) واحتمالات إعدامه أشبه بمسلسل درامي حي تنشر تفاصيله يومياً في الجرائد، ووجد الطفل نفسه معلقاً بالقصة وحلقاتها، كأنه أمام برامج تليفزيون الواقع التي لم تكن تخطر على بال أحد في ذلك الحين، ويوماً بعد يوم تعلقت المعلمة بشغف الطفل وخافت عليه من مصير النهاية المحتملة لرجل ينتظر الإعدام، وفي أحد أيام أبريل 1979 جاءت المعلمة إلى المدرسة حزينة، على وجهها صمت ثقيل، تتهرب من مواجهة الطفل وتتحاشى النظر إليه، وحين ذهب إليها في آخر اليوم ليحصل على الجريدة اعتذرت عن نسيانها، وقبل أن يستدير من أمامها وضعت يدها على كتفه وانتحت به جانباً في غرفة المعلمين، وبصوت هادئ أخبرته بتنفيذ حكم الإعدام في ذو الفقار علي بوتو، لحظتها فر من أمامها حزيناً، وفي البيت بكى دون أن يراه أحد، بكى على قصة انتهت دون أن تكون لمشاعره فيها أي قيمة، بكى حزناً ليس على شخص بعينه، لكن بكاءه كان على الفكرة التي عاشها وتعلق بها، فكرة أن القرية ستكون أكثر ضيقاً في غياب أحداث كبرى تأتي من الخارج، وكان عليه في ما سيأتي من الأيام أن يجد قصة أخرى يعلق بها روحه لتنبت له أجنحة من خيال.