صباحاً
جلس إلى مكتبه، رتب أوراقه وتصفح عناوين الصحف بفتور، أنباء متضاربة من جبهة القتال، أمريكا والعراق تتبادلان القصف الإعلامي.
طلب قهوة مضبوطة وأزاح الصحف جانباً، أشعل سيجارة مختومة بشعار ” صنع في أمريكا”، أمسك بهاتفه المحمول المزين بشعار ” صنع في أمريكا” وفتح ذاكرته الإلكترونية باحثاً عن رقم صديقته الجديدة الذي لم يحفظه بعد، ضغط عليه فجاءه رنين هاتفها على الجانب الأخر ناعماً ودافئاً، جاء صوتها وهي ترحب به وتسأل عن انقطاعه وظهوره الفجائي
هارباً من عتابها سألها أن يخرجا للغداء بعد انتهاء عمله، اعتذرت مؤكدة إنها اليوم “معجوقة” طالبة أن تلتقيه في الغد، مشترطة أن يدعوها إلى تناول البيتزا دون غيرها، وعدها وودعها وأغلق هاتفه، بعد نصف ساعة عاودت صديقته الاتصال عارضة عليه الخروج اليوم بعد أن استطاعت تدبر أمرها، ابتسم مؤكداً انتظارها.
غرق في تفاصيل عمله اليومي، وبين الحين والآخر تقع عيناه على التلفزيون متابعاً شريط الأخبار المتحرك أسفل الشاشة، فيما تطارده رائحة البيتزا مقبلة من موعد ينتظره.
ظهراً
اختار أن يجلس مقابل جهاز التلفزيون المعلق على الحائط عندما دخل مع صديقته مطعم البيتزا الشهير، ابتسمت فأضاء وجهها وهي تغريه بأن يطلب نوعاً جديداً من البيتزا سبق لها أن جربته، رضخ لطلبها وأثنى على أناقتها ودرجات الأزرق في فستانها، اقتنص الوقت ليتابع تقريراً سريعاً عن أخر مجريات الحرب، كان المراسل يسأل مواطناً عراقياً فيجيبه الرجل بحسرة كاتماً دموعه: ” إنهم يفتشون النساء ويلمسون أجسادهن”، تجاهل التقرير التلفزيوني وتـنقل بعينيه إلى الطاولات المزدحمة بالعائلات، وقطع البيتزا تهبط في بطونهم ساخنة، استدار بعينيه إلى صديقته، في اللحظة التي استقرت فيها البيتزا أمامها طوقت رائحتها دائرة الطاولة التي يجلسان إليها، ارتشفا قليلاً من الكولا وراحا يلتهمان وجبتيهما الساخنتين، فيما كان المراسل التلفزيوني ينهي تقريره بصورة امرأة مكتسية بالسواد ومغطاة بالتراب وهي تبكي طفلها الذي عثرت على قطع صغيرة من جسده تحت الأنقاض، تحركت الكاميرا قليلاً وتوقفت على قطع الجسد المحترقة، بدت له في لحظة شبيهة بمثلث البيتزا في طبقه تجاهل إحساسه وواصل غداءه الشهي.
مساء
في الثانية عشرة ليلاً تراقص ضوء هاتفه برقم خارجي، جاءه صوت صديق من قارة أخرى يزف إليه خبر انتقاله إلى شقته الجديدة، يسأله عن موقعها فيثني الصديق على المشهد الذي يراه من الشرفة والحدائق التي تحيط بالبناية، ويطلب منه أن يدخر جيدا للحصول على شقة في المنطقة نفسها، يضحك وهو يداعب صديقه: ” آلا تعرفني.. بيني وبين الفلوس ثأر قديم “، يغلق الهاتف عائداً إلى وحدته، لثوان يفكر في الاتصال بصديقته لكنها تسبقه فيرن هاتفه، يجيبها وهو يخفض في الوقت ذاته صوت التلفزيون، يأخذه صوتها إلى حكايات وأمكنة لكن عينيه تبقيان موجهتين إلى شريط الأخبار: ” عدد من الكتاب الأمريكيين يوجهون رسالة إلى بوش.. سيادة الرئيس لا تجعل الولايات المتحدة صانعة الشر في هذه الدنيا “، يتوقف شريط الأخبار ويظهر عنوان جانبي عريض مشيراً إلى خبر عاجل: ” موكب السفير الروسي يتعرض للقصف أثناء مغادرة العاصمة العراقية بغداد”، تروي له صديقته حكاية فيلم جديد لنيكول كيدمان، يحدثها عن تسريحتها الجديدة وعطرها الكثيف، تضحك كعادتها بخجل حين تفشل في تفادي حرف الراء الذي يكشف في نطقها لثغة محببة إليه، شاشة التلفزيون تحمل مشهدين متقاطعين لمؤتمر صحفي في قاعدة السيلية، تقول صديقته إنها لا تحب الموسيقى الصاخبة، يقترح عليها ألبوماً لعدد من المقطوعات الهادئة، تودعه بوفرة من الأمنيات، يسأل أحد الصحفيين القائد العسكري في السيلية عن عدم العثور على أسلحة الدمار الشامل حتى الآنفي العراق، يلقي بجسده كاملاً على المقعد وهو يمني نفسه أن يرى في أحلامه الليلة وجهاً قديماً لامرأة لا تغادر القلب.
فجراً
يتابع بعينين نصف مغمضتين أخبار الساعات الأخيرة، تتحدث المذيعة عن سقوط الآلاف من المدنيين، يسأل المراسل العسكري للقناة الفضائية رجلا عجوزا عن قدمه المبتورة بفعل قنبلة ذكية فيبكي العجوز مقهورا يمسك الريموت كنترول بكسل القناة يتوقف على مشهد راقص الأغنية جديـدة ل ” روبي “وعلى أنغامها الصاخبة
ينام
ينام
ينام
يوميات مواطن عربي

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا
لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر
ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما
كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم
ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن
وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت