يكسرون الخاطر

تساقط شعره أو كاد، وضاقت عيناه قليلاً، وغابت عنه دعاباته المرحة التي كان يوزعها على زبائنه بلا مقابل، تغير هو أم تغير الذي غاب وعاد واهماً أن المشهد لا يزال كما تركه منذ زمن؟ تحرك المشهد بالناس والأحداث وفعلت الأيام أفعالها بعم صابر، ثمة حزن عميق وثقيل في نبرته، ترتعش يده بفرشاة الورنيش، وهو يمررها على أول الحذاء ثم يديرها إلى يده الأخرى مائلاً فتلمع صحراء رأسه تحت ضوء شمس الظهيرة.مقهور بالتعب لم يعد يكلم زبائنه عن جدول الدوري وترتيب الفرق غير المنطقي، مقهور بلقمة العيش وأفواه الأرانب في البيت، يركض في جلسته كثور عجوز فلا يصل إلى نصف غايته، يقبل الأوراق النقدية ويدفنها في صندوقه الخشبي الملون بأصباغ الأحذية، ويسألك في خجل عن غيابك ويرضى بقليل الكلام والإجابات السريعة، يتردد حين يمد يده ليصافحك خائفاً أن يترك في يدك رائحة الأصباغ وألوانها الساكنة تحت أظافره طبقات من السواد.
عم صابر ماسح الأحذية العجوز يكسر الخاطر حين تفر من عينيه دمعة وهو يحكي لك عن قلة الحيلة أمام هم الأولاد والأحفاد.

نافرة عروق رقبته كأسلاك مشحونة عن آخرها بتيار كهربائي، حين يغضب تهرب من وجهه وتفلت بجلدك من أذاه، غفير قاسي القلب كان يطرق البيوت عند الفجر بعصاه، وبندقيته المدلاة من كتفه تصنع هيبته المخيفة، ضيق العينين كذئب ونحيل كشجرة لا تعرف الماء، تزوج وطلق وجرب البيع والشراء في بقالة جدرانها من الطين وسعف النخيل، اختار لها مكانا نائيا ليبيع بأسعار مضاعفة لمن تضطره الحاجة إلى أن يشتري، فيشترون ويلعنونه
هده المرض وذهبت هيبته يوم سلم البندقية واستلم ورقة “الخروج عن المعاش”، تساقطت أسنانه وانحنى عوده وفرح فيه من أبكاهم، وحيداً أمام بقالته الفارغة إلا من السجائر يجلس غائبا عن الناس، تهرب الأسماء من ذاكرته فيلوذ بك أن تذكره.
غفير الدرك القبلي يكسر الخاطر حين يبتسم فيشق قلبك بسكين حين تتذكر وجهه في صورتين متناقضتين.

إذا لم تره في مدخل المدينة الصغيرة فثمة شيء ينقصها، سنوات طويلة وهو يربض داخل الكشك الخشبي الأزرق مثل أسد يقتنص الرزق بذكاء ومهارة، يمد حبلاً من طرف الكشك حتى سور البنك المجاور، ويعلق الجرائد والمجلات كفساتين ملونة تغري الناظرين، وبخبث يضع الشبكة والموعد والكواكب في الصدارة، جميلات ناعسات بارزات الأكتاف وكاشفات السيقان، معلقات على حبله السحري، وحين تطول وقفة المأخوذين بالأغلفة دون شراء يصرخ في وجوههم، فينفض بعضهم فيما يحسب الآخرون ما في جيوبهم قبل أن يمدوا أيديهم إلى المعلقات على الحبل.
الآن يجلس هادئاً عيناه مسيجتان بنظارة سميكة، وصوته مقبل من بئر جافة، يقبع كأسد هرم خلف أكوام الصحف، “عم قناوي” بائع الجرائد يكسر الخاطر حين لا يأبه لمن يقرأ ويملأ عينيه بفاتنات الأغلفة ولا يشتري، وهو في جلسته خبر قديم في جريدة الذاكرة.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

يشربان الضوء والثالث يرى

المقالة التالية

لا يعطش الجيم إلا قليلاَ

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم

أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت