الأول يمد يده إلى مصباح الطاولة الصغير، يرفعه مازحاً كأنما يشرب الضوء، تأخذه الموسيقى كالدراويش، يميل يميناً لحظة يميل العازف يساراً، كأنما يضبط ميزان روحه المغطاة بحرير وشوك، تراه ماشياً عيناه مصباحه، تراه صامتاً عيناه خزائنه المغلقة إلى حين، تنفتح أبواب الحكايات سيقول لك غير ما سيقول الناس، سترى فيما رآه ورأيته ما لم تره عيناك، تسأله عن التي ملكت القلب فيسألك عن التي لا تتملك القلب ويقول: النساء طيبات إذا فتحن النافذة للروح، إذا بدلن أسوارهن بشجر وبحر.
بنات أفكاره عذراوات، يمرحن على شاطئ بثياب تشف، الحاملات الناي، الخارجات من فيض الذات، المنشدات بصوت يجيء من بعيد، خلفهن تجري لتقبض على أطرافهن، لكنك لا تأخذ منهن غير القليل، أنت لا تقدر على الطيران خلف أسرابك، أنت ثقيل بالعادة والتعود والرتابة والسهل، خفف روحك لتحلق بالطائر البعيد.
تستطيع لو أردت أن تكون في خفته كائناً على حقيقتك الأولى، طيبا كأولئك القرويين الذاهبين أول الفجر إلى ندى الحقول، تستطيع أن تعرف كيف تكون لغة الطائر مسكونة هكذا بروحه، كن ما أنت عليه وأقبض على شعلة النار خلفه.
الثاني لا يمد يده إلى مصباح الطاولة مثل صاحبه، لكنه حين تصعد النغمة إلى القلب يكاد يشرب الضوء، يأخذ من سجائره ما تأخذه الريح من أيامه، غير أنه لا يقبض على الفائت، يروي عن التي تسكن الرأس، يقول أريد قهوتها المرة، عسل حنينها الطاغي، وردة الجارينيا، قسوتها في غيرة مفاجئة، مطاردة الأنثى الظامئة، بكاء ليلة أخيرة حين تكسرت قطعاً صغيرة من زجاج، هو قرين الذي يشرب الضوء، قبله خازن أسراره، وحارس خطاه حين يتعثر في طيرانه، يعرف بالتجربة أن الليل طريقه إلى الغائبات، لا يأمن إلا لمن تطهر بنار المحبة، قلبه على أطراف لسانه، وهو الخازن لأسرار غيره، لكنه لا يقول إلا ما يملكه، وحده يطرب لجنون وهذيان مباغتين، تأخذه قدماه إلى أماكن وشوارع قديمة، عامداً يعبر الطرقات ليعرقل السيارات لحظة من الوقت علها تطل من خلف زجاج معتم أوقول له: استرح فيصف النصيحة بالحماقة، هو ذاته الذي يسمى المرأة قيامة، ويحذر العابرين إلى جحيمها.
الثالث هو الذي يراقب اثنين يشربان الضوء، هو الذي يسأل كيف قادتني خطاي إلى بيت المحبة؟ كيف فتحت عيناي بعد حزن وجهل على طيبة الأرض والناس ؟ هو الثالث الذي يخاف المضرة في الفقد حين تتوازي الطرق ولا يبقى سوى سرد وفيض من الحكايات، هو الثالث الذي يشقى بهما حين يغيبان، يستند إلى حائط دمه، مطفأ العينين، موقد القلب يتبع خطى بلا قصد، يتبع قافلة معلقة يقول: الوقت ليس لي، والجدران تتآكل في نصوص مثقلة بالنبيين، هو الثالث الغريب الغارب كشمس تسقط في العتمة والنوم، هو الثالث الذي يقول المحنة ألا تجد تأويلاً للمحنة
يشربان الضوء والثالث يرى

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا
لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر
ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما
كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم
ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن
وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت