قف قليلاً أيها المسافر في الروايات، أيها الممسك برقبة اللغة قافزاً بها بين ندى العشب ورائحة البيت القديم، قف لحظة حتى أتتبع هذا السرد المشتعل بالأمكنة والأزمنة والبشر الغائبين.. كيف جعلت الطاولة بيننا مسرحاً مكشوفا تتحرك عليه حكاياتك ؟ كيف امتلكت القدرة على حفظ تعويذة الأب ولم تسقط في اختبارات الألوان والأقنعة ؟ أي أم تلك التي ملأت راحتيك- بعد روحك- بالوصايا الطيبة، فأحببت الناس في صمت وأعطيت المدن أسماءها الجديدة حين اقترنت بوصفك الشاعري؟
قف دقيقة لابتلع رشفة ماء، أظمأتني في موقف الاستماع، أظمأتني إلى أصدقاء ذاكراتك المرصودين بالمحبة والوفاء، ما اسم هذا الذي يتوسط المشهد على مسرحك؟ ما اسم تلك التي زينتها بالعطر والحنين وعلقت صورتها في مدخل القلب ؟ ما أسماء الكثيرات الطيبات اللاتي يظهرن على أطراف أصابعك حين تشير إليهن كالحوريات ؟
قف دقيقتين لأحفظ الوجوه المزدحمة في رواياتك، لأرتب الأمكنة والأزمنة، لأعرف الصلة بين قلبك وعينيك، أيهما الذي يرى ويحب ويصف ؟ أيهما الذي تشقى به أكثر، وتفرح به أكثر ؟ ولماذا.. لماذا تخزن الرماد وتنفخ الهواء فيه مرة واحدة، فألهث خلف نار ذاكرتك المتقدة ؟
قف هنا في أول الحكاية الثالثة بعد الألف الثانية، فسر لي متى جاءك الهاجس المغاير ؟ متى حط طائر الكلام على شرفتك ؟ ما وجهة روحك المقبلة امرأة أم مدينة ؟ أم أنها (امرأة مدينة)؟
بيننا الطاولة تزدحم، وشخوصك أزاحوا أكوابنا جانباً، الطاولة خريطة للناس والمدائن، كيف أسقطت الحدود في عالمك الكوني؟ الطاولة تضج بما في رأسك فهل لديك اقتراح لملء ردهة ” الكافية” بزوارك الطيبين؟ لنسأل الجرسونة البيضاء كالثلج أن تضيف طاولة ثانية، أو لتقل أنت: اتسعي يا طاولة الوقت، يا مسرحي المكشوف على دراويش الأرض، يا بيت المنسيين المذكورين في لغتي.
يقول صديقك في كتابه الشفوي إنك نصف قلبه، فمن نصف قلبك وأنت تتبعك الوجوه كالظل وتفرد جناحيك خيمة لمن يسألك المحبة؟
تقول في صمتك البلاغي إنك لا تحب الرمادي، فمن علمك أن تكون البدوي الذي يشتهي أن يلاقي اثـنـتـين: “الحقيقة والأوجه الغائبة “.
قف لأكتب خلفك رائحة المطر على أرصفة باريس، لا تتبع في وصفك امرأة ممتلئة تعبر (الآن) بين جملتين في كلامك، وأنت تعطي طفلة الفل والياسمين ابتسامة في مقهى قاهري مزدحم، تراقب عجوزاً دمشقية لم يكسر الزمن ظهرها، تنتقي تلال الكتب القديمة في شارع بغدادي، تسحب نفساً من أرجيلتك المنتظرة موسمك البيروتي.
– ما اسمك ؟
– لي من الأسماء اثنان وعشرون
وقلبي وطن عربي صغير
يشتهي أن يلاقي اثنتين

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا
لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر
ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما
كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم
ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن
وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت