(1)
يا أماه..
أغلقي الباب آخر الليل لأن طفلك البكر تجاوز الأربعين في غربته، لأن عينيه معلقتان بألف طريق غير طريق البيت، وقدميه تخطوان على أسفلت ورخام.. هل تعرفين لون وبرودة الرخام؟
هل تصدقين أنه استبدل شجر الأرض، وقمح الأرض، وبرتقال الحديقة الصغيرة بباقات ورد يموت سريعاً، ونباتات ظل في زوايا الشقق الصغيرة؟
(2)
يا أماه..
أغلقي الباب ونامي لا تراقبي الطريق الترابي كمن يراقب أحلامه المستحيلة، لا تبكي في صلواتك وأنتِ تسألين الله أن يرد إليك الغائب الغالي، وأن يملأ عليك البيت بالأبناء والأحفاد، لا تتبعي الآهة المكتومة خلف شرايين القلب•
نامي يا أماه.. لأن كمالك لا يجيء مصادفة، ولا يرتب لمفاجأة سعيدة في يوم عيدك نامي يا أماه.. لأن طفلك الأربعيني لا يملك غير صوته القادم إليك من خط هاتفي مدفوع مقدماً.
(3)
يا أماه..
أغلقي الباب ونامي.. لأنني كثيراً ما أفكر في أصدقائي وكيف انتهى بنا الحال كأشجار ميتة، يمرح تحتها الأبناء والزوجات، دون أن يعرفوا أعماقنا المظلمة، والخيوط المتجمدة من الدموع، وبكاءنا العظيم على ما حلمنا به، قبل أن نرفع راياتنا البيضاء فوق قبورنا.. كثيراً ما أراقب رؤوسنا وهي تطير من أرض إلى أرض، واليوم لم نعد نسمع عن أسمائنا سوى ما يقوله الغرباء عادة عن المشاكسة الميتة على أفواهنا.. وكيف انتهت حروبنا بلا نصر كما كنا نتوقع.. كأنما تلقينا – يا أماه – إشارات غامضة بالصمت والتواضع.. اليوم تبدو أرواحنا حسب الروايات المتناقضة عميقة في خيرها.. عميقة في شرها.. ولا حيلة أمامنا سوى أن نحفر لأجسادنا قبوراً متجاورة.. قبوراً بعيدة عن أمهاتنا.. بعيدة عن أحلامنا الرائعة.
(4)
يا أماه..
أغلقي الباب ونامي.. اليوم أقفز من شرفة إلى شرفة وأنا خائف من الموت مبكراً خائف على حبيبتي الطيبة من الثعالب الغريبة خائف من الأربعين التي لا أستطيع ردها بالعناد والشتائم..
(5)
يا أماه..
اغفري لي قبل أن تغلقي الباب وتنامي، اغفري لي حين لا تسمعين وقع خطواتي على مدخل البيت، حين تكتشفين خيباتك العظيمة في ابنك البكر، ويمر عيدك دون أن أقول لك شيئاً عن الفقد والحب•• اغفري لي يا أماه.. لأنني أحمل صورتك في جيبي، وأتحدث عنك كضمير غائب، ولم أخطط بذكاء لتحرير أنسالي من الفقر والكتابة.
(6)
يا أماه..
عندما تقفين أمام خشب الباب، وتنظرين إلى الشارع الترابي دون أن يجيبك أحد، اعلمي أنني هنا أنظر إلى صورتك وأنا أدفع أمامي سنوات العمر كشجر يموت، وأنني سأغلق عيني فلا أرى بعدك أحداً، سأرسل إليك يدي اليمنى لتضعيها تميمة على الجدار كيلا أصافح أحداً بعدك، وسأتبرع باسمي في عيدك لأول رجل مجهول أقابله، لأن أحداً لن ينطق اسمي برقة مثلك•• يا أماه.. أقول: أحبك.. وأنا أهذي خلف زرادشت: “لقد قلتُ كلامي، وها أنا أتحطم بكلامي، ذلك هو قدري الأبدي، مبشراً أمضي إلى حتفي.