يعرف أنها لن تعود، لكنه يواظب برتابةٍ على نطق اسمها مرتين كل صباح، يتأنق كعاشق، ويطلب القهوة بهدوء يليق بموعد عاطفي، ثم يهمس بينه وبين نفسه باسمها مرتين لا ثلاث. مرة مع أول رشفة من قهوته الصباحية المضبوطة، ومرة ثانية مع آخر رشفة عميقة تغطي اللسان وسقف الحلق بطبقة كثيفة من البن، بعدها يأخذ نفساً عميقاَ، ويبدأ يومه، يواجه حياته كعدو لدود، عدو لم يكن ليقدر على مواجهته دون نطق اسمها مرتين لا ثلاث كل صباح
.
يعرف أنها لن تعود، لكنه ينتظرُ المصادفات كتائهٍ صبور وسط غابة حزن مظلمة، يتربص بالاحتمالات، يفتح عيناً ويغمض أخرى، ويرقب الوقت بلا ملل، ويرى بعين قلبه أن المصادفة قادمة، وستطل برأسها من بين كثافة الشجر. تعصفُ الرياح فوقه وتتساقط أشجار صغيرة على جسده الممدد في سكون، وكلما سمع خطوة استعاد إيقاع خطوها، كلما سمع صوتاً قارنه مع رقة صوتها، وحين توقعه المقارنات في فشل وخيبة، يقول: أنا التائه ليس لي غير الصبر والحكمة، أنا التائه المتروكُ بحبٍ، والمقتولُ بحبٍ، والمنتظرُ تحت مطر وعاصفةٍ، وقد بها أنجو إذا مدتْ يدها لتأخذ بيديّ
يعرف أنها لن تعود، وفي انتظاره يشبه تلميذاً خائباً عنيداً، لا يصدق أن الدائرة الحمراء على شهادة قلبه دليل رسوب عظيم، ثم لا يبالي بالألم الذي يرج قلبه، ويخطف نعمة النوم من عينيه، لأن عناده طائره الأسود الذي ينوح خلفه، هكذا لا يرى العاشق في ميتته المكررة غير بهجة انتظار مكررة، وحين يضربه اليأس على رأسه، يخاطب روحه بحرف احتمال، يقول: قد…
يعرف أنها لن تعود، لكن الظن الحسن بالوقت يغلبه، يردد هامساً:”أنا لم أمت بعدُ”، ذلك أنه لا يظن هذه الحياة إلا طريقاً واحداً هو إليها، قطاراً بمقعدين حُجزا لهما منذ الأزل، وليس لغيرها حقٌ فيما هو حقٌ لها وحدها، فإذا مرتْ محطة من عمره دونها، فإن محطة أخرى تجيء بها، فتبقى عيناه انتظاراً، وروحه شغف مصادفات، ووحدته ضجيج أحلام، وحين تنغلق الظنون الحسنة، يترصد شهيقه وزفيره، ويطمئن إلى بقاءٍ على الأرض التي تمشي عليها، ويصدق خدعته الناعمة: آهٍ، حسناً، ثمة أمل في حياة قد تجيء بها.
يعرف أنها لن تعود، لكن سذاجته وقاية من ذبحةٍ ولو مؤجلة، سذاجته غطاء إذا نزلت في قلبه برودة حنين، سذاجته وعدٌ ملتبسٌ، وتوقعُ تحقق لأحلامٍ عصية. سذاجته الوهم الذي يحبُّ، والرغبةُ التي تطيبُ له حين لا يطيبُ له غيرها. سذاجته من طين الأرض التي قطعها طفلاً خلف طيور الحقول، سذاجةُ الترع المرصودة لزرعٍ وحصادٍ، سذاجةٌ تقوده إلى توقع الثمر الطيب حتى وإن نزلت بأرضه نازلة القحط والجراد.
يعرفُ أنها لن تعود، لكنه لا يعرف أن الغيابَ كرة ثلج تكبرُ كلما تدحرجتْ بينهما. لا يعرفُ أن (قد) حرف توقع، احتمال مراوغ، مصيدة خيبة، واطمئنان زائف يسرق العمر، أليس لحرف التوقع وجهين؟ أليس لحرفها جحيمين:
1- قد تعود
2- قد لا تعود
فكيف لعاشقٍ عاقلٍ أن يرهن قلبه لانتظارٍ قاتلٍ؟
لكن السؤال يكاد يكون: وهل ثمة عاشقٌ عاقلٌ يتبعُ حرفَ توقع واحتمال؟!
1- قد تعود
2- قد لا تعود
فكيف لعاشقٍ عاقلٍ أن يرهن قلبه لانتظارٍ قاتلٍ؟
لكن السؤال يكاد يكون: وهل ثمة عاشقٌ عاقلٌ يتبعُ حرفَ توقع واحتمال؟!