ولم تكن اللوحة هناك

– لم يعطني الله هذه الموهبة عبثاً

قالها في قلبه، وهو يراقب الألوان المتناثرة على أرضية الغرفة، واللوحات التي لم تكتمل أبداً تملأ المساحات بخيبة أمل طالما صحبته إلى سريره آخر الليل، وحين يشرب قهوته المضبوطة ينظر إلى أصابعه الطويلة المغطاة بألوان الزيت والماء، وفي لحظات من جنونه كثيراً ما خطر له أن يقص أصابعه ويلصقها كشكل للهذيان على قماش اللوحة، ثم يرسلها إلى حبيبته كاعتذار عن فشله في رسمها.

موهبته لم تكن حملاً ثقيلاً عليه كما هي الآن، لم ينجز شيئاً مبهراً يقنعه بالفرح أو الاطمئنان، وحتى في أعماقه لا يعرف معنى “مبهراً” هذه، ويراها كلمة مراوغة لا تدل إلا على قلقه العظيم.

– عن أية موهبة تتحدث، وأنت لا تستطيع إنهاء اللوحة التي نذرت لها عمرك كله؟ حواره الداخلي يأخذه من حيرة إلى أخرى، يعاتب نفسه ويؤنبها، ثم يعود ليلتمس العذر لذاته وبرحمة تتسع لكل أخطائه وعبثه، عشرات من اللوحات تكاد تفسدها رطوبة غرفة المرسم، لكنه لم يعد يعترف بقيمة لشيء غير هذه اللوحة التي يضع عليها لمسة هنا ولمسة هناك، في كل صباح ومساء يمسك بفرشاته ويقف محدقاً ثم يخلط ألوانه ويضرب بطرف الفرشاة ضرباته الناعمة.

يتراجع قليلاً، يقف كرجل ذهب عقله، والموسيقى تجيء من الركن كلحن جنائزي.

– هذه اللوحة حياتي.. سأكملها كما ولو أنها حياتي.

يقول داخله، ويتحرك تحت سيطرة فكرته التي تسحب أنفاسه وراءها، إنه يرسم منذ عرف كيف يمسك بالقلم ويتحسس ملمس الورق الأبيض، ومنذ استيقظ وعيه على الحلم بامرأة، سنوات وراء أخرى وهو يتخيل عينيها، ولون شعرها، وضحكاتها، وخجلها الجميل، وها هو اليوم يريد أن تكون لوحته حية، لا يريدها خطوطاً ملونة وظلالاً، فكيف يستطيع؟

كيف يستغل موهبته في تجسيد ما يريد..ومن يريد؟ يتذكر “بجماليون” وتمثاله الرخامي، يتذكر “مودلياني” وامرأته مسروقة العينين، يتذكر كل النساء الجميلات اللاتي جلسن أمام من يفوقونه شهرة وموهبة، وتكاد تنكسر إرادته، لحظتها، في وقوفه المهتز على حافة جبل الحيرة، يشع في قلبه ضوء ساطع، وتتدفق الثقة بروحه وفي روحه، ويهذي أمام اللوحة:

– لن تكوني ماء أو زيتاً، لن تكوني خليط ألوان، ستكونين كما لو أنك حقيقة، سأرسم حنان عينيك قبل عينيك، ونبرة الضحك قبل الضحك، وسيرى الناس فيك ما لم يروه في لوحة من قبل.

هذيانه الداخلي لا يتوقف إلا حين تتوقف يده عن الرسم وتخور قواه، فينام كطفل مرهق أسفل حامل اللوحة الخشبي، انقطع عن العالم، وأغلق باب بيته على وحدته ووحيدته، لا يغادره إلا مرغماً لشراء ما يلزمه من الطعام، مسكوناً بما يرسم ومن يرسمها، يود أن يحمل اللوحة معه أينما ذهب، ولم تبخل عليه أحلامه في ساعات نومه المتقطعة بالحلم بها.

انقضى العمر أو كاد، وكمن يفتتح مهرجاناً طفولياً، ظل يرقص ويتقافز من ركن إلى ركن حين اكتملت لوحته، ها هو أخيراً يقف أمام امرأته، العينان الجميلتان، الفائضتان بالحنان، الملامح الصغيرة الدقيقة، الابتسامة المفعمة بالطيبة والأنوثة، خصلات الشعر النائمة على طرفي الجبهة، ولم تكن نظرة المرأة إلا سحراً يطارده، وقف أمام اللوحة وعلى جانبيها، وبزوايا مختلفة، وكانت النظرة تتبعه، كأنما تعرفه هذه المرأة وتعرف شقاءه في انتظارها والحلم بها.

ابتسم ثم ضحك بصوت عال، كانت طفولته كلها في قلبه وهو يعلق عينيه بعيني امرأته المبتسمة في زهو أمامه.

ولم يشأ إلا أن ينام كما تعود أن ينام أسفل الحامل الخشبي، كان يريد أن يستظل بوجهها وهي تطل عليه، وبدا له وهو يذهب في النوم أن المرأة في اللوحة تنظر إليه بحنان وتربت على كتفه.

وفي الصباح كان استيقاظه فزعاً مروعاً، وصرخته المدوية أسقطته على الأرض في تشنج مخيف، ومن يراه في تلك اللحظة لم يكن يشك أن الرجل سيموت حتماً وعلى وجهه نظرة الفزع، نظرة واحدة طويلة ملقاة على الحامل الخشبي..

ولم تكن اللوحة هناك

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

الموجة التي تكلمت بلسان امرأة

المقالة التالية

نبوءة الخاسر في الأولمبياد

اخر المقالات من تأويل جميلة

في البدء كانت جميلة

في البدء كانت الكلمة، ربما، لكنني أظن أنه في البدء كانت النظرة، وكانت جميلة، كأن ترى

اعتذار الفراشة

أحط بين يديك يا جميلة، لأعتذر عن حماقة صاحبي، جناحاي معطلان، جناحاي ثقيلان بالذنب حتى ترضين،

صائد التفاصيل

  الجحيم في التفاصيل، ربما.. وأولئك الذين يعيشون بذاكرتهم البصرية قد يكونون في لحظة ما أتعس

ليست مجرد امرأة

– اكتب، قل شيئاً، أي شيء، أكمل روايتك اليتيمة، لا تترك رقبتي هكذا دون جوهرة تليق