وكالة شلبي

يقول الذي إذا قال تهيأت الكتابة لفتنة السرد: ” أنا من أسرة جار عليها الزمن، وانقلب حالها، وأصبحتُ الطفل خيري شلبي، الذي يتأهب لدخول المدرسة، مطالباً بالإنفاق علي تعليمه، وعلى أسرته، فبدأت رحلة الشقاء في حياتي، عملت في جمع القطن، تعلمت طفلاً مهنة الخياطة والحدادة ثم النجارة. اشتغلت بائعا في محلات كثيرة، وسمسار بضائع، وجريت وراء رزقي ثلاثة مواسم مع عمال التراحيل”

تقولُ فيقرؤك الفتى، ويقولُ: هذا كنزك إذاً، جار علي أهلك الزمن بفقر بعد غنى، فما تركت تجربة إلا ودخلت إليها. هذا كنزك الذي به تخطف قلوبنا، ترفعه بيديك فيبرق معدنك بذهب أصيل.  جمعت قطن الحكايات، وبإبرة روح دقيقة ربطت خيطاً بخيط، صنعت من أشجارك المثمرة بوابة وكالتك المدهشة، وقلت هاهي وكالتي، ها هي حيوات من عبرت بهم، وعبروا دمائي في طفولة الزمن الجائر، ولقمة العيش في عربات التراحيل. صعدت جنوباً، وهبطت شمالاً، وأنت تطارد الرزق، غير أن النعمة كانت في رزق قلبك وعينيك، في حصاد ما جمعت من خيوط، ووجوه، وما طلعت به علينا من واقع وسحر

الهامشيون جاؤوا إليك، القرويون بعرق أكتافهم وعروق أزنادهم، الأجداد البعيدون، أولئك القساة في الغضبة والمحبة، الأمهات الغارقات في الخجل والحنان، الجدات المتحكمات في الصغار حتى لا يذهب عنهن جاه الأمر والنهي. جاؤوا إليك أيها الحكاء، السارد، اليقظ في الفكرة والحرف، اكتسوا من حبرك لحماً ودماً، ضعفا وقوة، جوعا وشبعاً، خرجوا من بنات أفكارك إلى كون قراء فسيح

يقول الفتى سأصعد الليلة شجرة من أشجار ” خيرك”، ربما شجرة”الأوباش”، أو “الوتد”، أو ربما أتأمل في “فرعان من الصبار”،  أو”بطن البقرة”، أو أطرق ببطء أبواب “وكالة عطية”، وقد أختار الجلوس إلى ” صالح هيصة”

آه إنه شجرٌ كثير يا عمُ، غابةُ أرواحٍ يا خالُ، وبستانٌ لا يحيط به مقال صفحة، إنه شجرٌ يمتد حتى تعقبه إلخ..: السنيورة، الشطار،العراوي، موال البيات والنوم، ثلاثية الأمالي (أولنا ولد – وثانينا الكومي- وثالثنا الورق)، بغلة العرش، لحس العتب، منامات عم أحمد السماك، صهاريج اللؤلؤ، زهرة الخشخاش، نسف الأدمغة، صحراء المماليك

يذكر الفتى حين كان الشعر بيته ومقصده، كيف راوده الحلم أن يرى اسمه على قصيدة في مجلة، وكنت أيها  الساحر،السارد، الحكاء، رئيس تحرير” الشعر”. كانت خطى الفتى خجلى فلم يصل باب مكتبك، غير أنه مرر القصيدة إليكَ عبر شاعر صديق، فإذا بها والاسم في فهرس العدد الجديد. كان الفرح طاغياً بأول ما نشر الفتى، فيما ذهبتْ مكافأة النشر ثمناً لغداء الأصدقاء وضجيجهم ثلاثة أيام على مقهى صغير

يقرؤك الفتى فيقفز إلى طفولته، يرى بين يديه شجراً لا كتاباً، صفصافة الترع الصغيرة، ظل نخلة مائلة على لهب تراب الطريق، نساء الأسود الحالك إذا مات عزيز البيت، زفة الحناء في زواج الولد الذي نبت شاربه واخشوشن صوته

كلما قرأك الفتى رأى جده وأبيه، وقعت في أذنيه خطواتهما العميقة على أطراف الحقول، نبرة الصوت التي تجفف الدم في عروق الطفل إذا شاهداه متسخ اليد أو الثياب، وعصا الخيزران تود لو تعيد درس العقاب على الظهر الصغير يوم سبح في ترعة راكدة

كلما قرأك الفتى عبرته قشعريرة إذ يرى وجوهاً يعرفها، تحاصره الأصوات والروائح المعتقة في ذاكرة متعبة بالغياب، يلتبس عليه خيط رفيع ما بين السحر والواقع، فيتساءل: أي ” خير” عظيم في اسمك وقلمك؟ كيف طاردت بشراً متخيلين، فوقعوا في شباكك جواهر من حكايات؟

الآن…

يود الفتى- في عمره الجديد- أن يسألك

كيف استدرجت كل هذا الضوء بجرة قلم بين أصابعك؟

 

مقال ( كاريكاتيزما ) – مجلة الصدى – 29-5-2011

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

رسائل الأماكن

المقالة التالية

أحزن طفل في العالم

اخر المقالات من تحت ظلال الآلهة

سارقُ النار

لا لغة تقدر أن تكون الريح إذا شاءت أن تصف الريح إلا إذا كان كاتبها عاصفة،

العبقري

  كان غبار القرى لا يزال رائحة قميصه حين كانت تتكرر مصادفات المصعد في المبنى الزجاجي،

ما أجمل ضحاياك

قبله هل كان الشعر يمشي على الأرض؟ قبله لم يكن للشعر قدمان، كان له أجنحة لا

من يكره فيروز؟

  أنا أكره فيروز طاوعه لسانه وقلبه مرة ونطق بها، تورط في غضبة الغيرة، ولم يكن