وردة الحدائق البعيدة

 تحل في المكان فيتبدل المكان، وتمشي الروح في جسد الجدران وخشب الشجر القريب والبعيد، وتحط عصافير صغيرة ملونة على أغصان ظن أهلها أن لا طائر يجيئها، وتأخذ المصابيح من عينيها ما تستعين به على الليل من ضوء وألفة، ويلقي العابرون على العابرين السلام لأن محبة ملأت الأرض من محبتها، لأن قلبها بيت المتعبين بالسؤال والحاجة والحياة العصية، لأن يديها ممدودتان بالرأفة لمن يملأون بطونهم بالنوم حين تقل الحيلة والرزق، لأن صوتها يقود الضال إلى روحه، ويزين القرى والمدن الحزينة بالفرح والصبر الجميل.

تمشي فتتسع الشوارع حين تحصي أشجارها، وتؤرخ لوجع الأرض والبشر لحظة يكون القلب وتراً مشدوداً، والعين ملقاة على أول الأسى، ما الذي يسرق الأنثى من فرح الأنثى؟ ما الذي يجعل الوردة حزينة في عطرها سوى ما يجعل الموسيقى قارب نجاة ؟ كأنها في اسمها تنام في سحابة لا تمطر إلا على أرضه حده، فهل يرتوي الظامئ من صورة وصوت؟

تضحك فينشرح قلب الذي لا ينشرح قلبه إلا قليلاً، ويهذي في مساء الحدائق عن تأويل الخير والشر، الحنين والفقد والمسافات المكتوبة في الغيب وحدة وحيرة وسفراً دائماً خلف أغنية تجيء من بعيد، فيمد يده ويبكي في صمت رجولته راضياً بما قدره الله وكان.

تقول غير ما يقول الناس، تروي عن القلق الذي يحفر القلب كل ليلة لأرق الإجابات الهاربة، فيقول لها غير ما يقول الناس، يبتكر لها شواطئ في بحرها، يبني لها حائطاً من دمه، يقول لها استندي إلى روجي، خذي ما تشائين من الوقت، واعبري الريح معي، أيتها الغريبة من يليق بك غير الغريب ؟ أيتها المسكونة بالبلاد والعباد، أيتها المأخوذة من قلبي لمن أنت غير قلبي ؟

تصحو وتنام أمام مرآة حزينة، تركض في نهارها خلف تفاصيل صغيرة، وهي تطفئ عن عمد حنينها بروتين يومي، تستبدل صمتها بمراقبة الناس والأعمدة والسيارات والأشجار اليابسة على جانبي الطريق، تقول له عن وحدتها ويقينها الوحيد، فيبتكر حيلة العاجز على الهاتف.

يداعبها كمدينة محاصرة بالورد، يقف على أبوابها مترقباً فترق ويذهب صوتها كنغمة ناي تستغيث، ينظر إلى واجهات البنايات ويهذي: ليتها هنا خلف زجاج شرفة ما.

هي في هيئة الكتابة والكتاب، في طوق الحمامة، في بغية الملتمس، في بهجة المجال، في مجمع الأمثال، في نزهة المشتاق، في أعلام النساء، في محيط المحيط، في الصلة والوصل والمنتخب

وهو في باب ماهية الحب وعلاماته، في باب من أحب في النوم والوصف ومن نظرة واحدة، وباب من أحب صفة لم يستحسن بعدها غيرها مما يخالفها، في باب طي السر والطاعة والوفاء، وفي ذكر ما وقع من المحبة بين الرجال والنساء، وذكر بعض ما يقود إليه الهوى من الهلاك، وما يؤول إليه حال المحبين من السقم والضنى والتحول.

– من يهز الوردة على غصنها ؟

– من للعابر في الريح غير العابرة في الريح ؟

– من يقترح المساء الذي ينشدانه؟

– من يصف العطر الواقف على بوابة التاريخ ؟

– أي خرائط تسع الغربية والغريب ؟

كان النهر يجف أو يكاد حين أخذت حكمتها من الماء والنار، حين استوت وردة البيت، حين قالت أبي وأمي وإخوتي، وأعطت كل واحد بعضاً من قلبها، وهبت وحيدها الاسم والروح، أكملت نقصانه في تمام الوجد، ووقفت على بابها مسكونة بالأساطير.

كان النهر آخر ما روى عنه الغريب، حين مدت يدها بالسلام، واكتفت بالصمت حين لزم الكلام.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

لا يعطش الجيم إلا قليلاَ

المقالة التالية

تمام الشيء

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم

أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت