وداعاً صديقتي الخائنة

لم أكن يوماً قليل الأصل، لأن أبي الذي تعب في تربيتي وتعليمي ما زال يفخر بأصوله العربية.. وعائلته الممتدة ورجالها الذين يقف الصقر على شواربهم.
ولم أكن يوماً ـ كما أظن ـ من أولئك الذين يكشفون أسرارهم الخاصة، ويفضحون أنفسهم علناً، وكنت ومازلت أعتقد أن الكتمان نجاة، والصمت صديقي الذي لا أخذله ولا يخذلني، فألوذ به كلما حاصرتني الهموم والمتاعب.
لم أكن يوماً غير ما أنا عليه من حب العزلة، وتأويل الغامض، والتقاط التفاصيل الصغيرة لأدفنها في قلبي باحثاً عن الوجوه والأماكن التي تفلت عادة كما يفلت الماء من بين الأصابع.
لكنني اليوم..

اليوم تحديداً ضاق بي صبري وكتماني، وبلغ بي الأسى حد الانفجار، ووصلت الخيبة حد الفجيعة، ولهذا سأروي لكم حكايتي ومأساتي مع صديقتي الخائنة، صديقتي التي حرقت دمي، وأثقلتني بالديون والهم، ولا أقصد من وراء الحكي فضح نفسي أو فضحها ـ أعزها الله بعيداً عني ـ ولكنني أروي قصتي ليستفيد منها من هو على شاكلتي، ولكي يأخذ الحكمة من يرغب في اجتناب الهلاك. عرفت صديقتي ـ قبل أن تصير لي ـ عبر صديق تحدث عنها كأنها المنقذ والملاذ، ووصف حسناتها كأنها خلقت لأجلي، وقال فيها ما لم يقله قيس في ليلى، وعنتر في عبلة، وهكذا وقعت في غرامها، وذهبت إلى أهلها طالباً يدها، فكان عليّ أن أقدم أوراقاً، وأن أثبت حُسن نيتي، وحُسن راتبي، ونهاية خدمتي، وأن أتعهد بتلبية حقوقها إذا وجبت، وألا أتأخر عن موعد وصلها ووصالها، ولما كنت قروياً ساذجاً يحسب كل شيء أحمر صندوق بريد، وافقت، ووقعتُ، وبعد أيام استقرت بين يدي، جميلة ودافئة، وجهها يلمع كلمعان الذهب وملمسها ناعم كحرير صاف، فتنهدتُ، وقلتُ لتكن رفيقتي إذا ضاق بي الحال، لتكن ملاذي إذا خذلني الأصدقاء عند السؤال، لتكن بجواري، ومعي، وأمام عيني إذا استنجد بي الأهل في البلد البعيد، لحظتها ستكون لي ولهم السند والعون إلى حين. هكذا وقعت على وجهي في هواها، فأعطيتها الثقة كاملة، واستقر الاطمئنان إليها في قلبي، ولعبتُ معي لعبتها الماكرة، جرت قدمي خطوة..خطوة، أعطتني من فيضها، ولم تبخل عليّ من مالها، فظننتها الزوجة والصديقة الوفية. ولأنني ـ لسوء الحظ ـ ما زلتُ مسكوناً بقليل من سذاجة القرى، توهمت أن ما أعطته لي كان حباً، وأن صبرها سيطول، وأنها لن تكشف أبداً عن سوء أفعالها، فهي ـ حسب اعتقادي ـ صديقة من ذهب ـ وحسبما قيل لي ـ مضمونة العواقب، وذات أهل ونسب، ولكن خاب ظني، ووجدتني ـ آخر من يعلم، وآخر من كان يظن بها السوء، وأول من يكتوي بنارها.. وشرها. في كل شهر يهاتفني بعض أهلها، يطالبون بمهرها، مهرها الذي دفعته عشرات المرات، فإذا أقسمت لهم أنني سددت المهر كاملاً بفوائده، وعوائده ، قالوا لي إن على الفوائد فوائد، فأستعيذ بالله، واستعين ببيت من الشعر القديم “مصائب قوم عند قوم فوائد..”، ولما كنت غارقاً في مصيبتي، أدفع نصف راتبي كل شهر إرضاء لأهل صديقتي التي تنام بين يدي كملاك صغير، قررت ذات يوم أن أضع لخيانتها حداً، وأن أرد لها الصاع صاعين، وأن أثبت لنفسي أن إرادتي أقوى من الإغراء، وأن الكرامة لا تقبل المساومة، وأنها ليست آخر الأصدقاء وأنبل النساء، فأمسكت بها كما يمسك المحترق بجمرة النار، وصارحتها بما في قلبي من الغيظ والنقمة، والكراهية التي لم أعرفها ولم أحس بها لأحد من قبلها، وقلت لها إن أسفي ليس عليها بل على صديقي الذي رشحها لي، فلم يحذرني من خبثها ولؤمها، وحملتها غصباً إلى بيت أهلها، فقابلوني ـ لأول مرة ـ بالود واللين والألفة، وطالبوني بالصبر عليها، ومعرفة طباعها وخصالها، فانفجرت في وجوههم، وألقيت عليها أمامهم يمين الطلاق والانفصال، وكدت أمزقها وألقي بها في سلة القمامة، فانتفضوا كالشياطين، حاصروني بالأوراق والأسئلة، وطالبوني بالحقوق التي أهملتها، فأقسمت أنني دفعت أكثر من مهرها، فقالوا.. وقالوا.. وقالوا، ولما كنتُ الراغب في الهجر والطلاق، دفعت من جيبي وعرقي من المال ما لا يطاق، وحملت بين يدي براءة الذمة، وخرجتُ إلى الشارع رجلاً حراً ضاحكاً لأول مرة، وفي قلبي بقايا من الحسرة على ما خسرته في صحبة هذه الخائنة الماكرة.. هل تريدون اسم التي راوغتني..؟ هل تريدون اسم التي تحررت من شرورها..ومهرها الذي لا ينتهي؟ اسمها يا سادتي الكرام: “بطاقة الائتمان” فاحترسوا.. واحذروا.. ولا تطلبوا يوماً يدها..!!

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Default thumbnail
المقالة السابقة

أمراض الدسك المركزي

Default thumbnail
المقالة التالية

الإنساني.. بين الخير والشر

اخر المقالات من سيرة الحنين والفوضى

THE VOICE OF ENIGMA

بالأمس قررت أن أكون وحيداً مع صوت “إنيجما”، قررت أن أكون مخلصاً لها لمرة واحدة، وفي