يمكن لي أن أتحايل على ضوء النهار إذا أردت أن أصنع ليلاً مظلماً في الواحدة ظهراً، سأحتاج فقط إلى ستائر مُبطّنة، وزجاج يعزل الصوت، وسرير دافئ، وربما أتطرف قليلاً فأضبط مؤشر الراديو على موسيقى هادئة، وبعدها سيكون في مقدوري أن أفعل شيئاً بسيطاً وممكناً: أغمض عيني وأنام.
لكنني لا أنام، وحيلتي في ابتكار ليل نهاري تفشل أمام يقظة التعب، وأمام إحساس داخلي بأن خارج غرفتي نهار حقيقي وليس ليلاً كاذباً كما أريد، لا أستطيع تصديق ما أعددته في غرفتي، العتمة التي صنعتها بإغلاق الستائر، والموسيقى الهادئة، والرغبة في السرير، كل هذا لا يقنعني ولا يقنع حواسي بالدخول في النعاس.. وأسأل في حيرتي، أسأل وأنا أكاد أترنح إرهاقاً: ما الذي يفعله المتعب حتى ينام؟
لا أنام عادة إلا حين يصبح النوم ضرورة حتمية وسقوطاً كاملاً في الغياب.. غائبٌ عن الفارق بين الليل والنهار، بين الهدوء والظلمة والضجيج، لا فرق لحظة الوقوع في النوم أين يستقر عقرب الساعة، وهل تمتلئ الشوارع الآن.. أم فارغة ووحيدة؟ فقط يجيء النوم في اللحظة الحتمية موتاً صغيراً.. وجميلاً.
تمنيت أن أقع من طولي على الكنبة أو السرير، تمنيت أن أحلم بكل الذين أحبهم، وأحببتهم، بكل الذين معي وحولي، وكل الذين ذهبوا وتركوا وجوههم وأسماءهم في الذاكرة والقلب، تمنيت أن أرى الشوارع التي أنفقت فيها ملايين الخطوات، والمقاهي التي ثرثرت فيها عن الكتابة والبنات الحلوات، والقطارات التي أسندت على زجاج نوافذها رأسي المسكونة بالأهل البعيدين يوم أخذتني الأمنيات خلفها، تمنيت أن أحلم بمن لم أحلم بهم منذ زمن، قلت لنفسي: هذا التعب الثقيل سيقودني حتماً إلى الغائبين المنسيين، كدتُ في لحظة أن أنام، لكنني في عناد قروي قاومت سقوطي في النوم، أجلتُ موتي الصغير لبعض الوقت، لا لشيء إلا لأتذوق حاجتي وأتابع في لذة مجنونة رغبتي في النوم.. ها هي.. ها هي الرغبة تجتاحني، عيناي مثقلتان، والخدر اللذيذ يبدأ من أطراف أصابعي.
الآن اكتفيت من الصحو، ها هو اليوم الثاني من اليقظة، رئتاي مملوءتان بالدخان والنعاس، وعيناي نصف مغلقتين، ولاشيء غير هذا الخدر الجميل، وبخطوات لا تلمس الأرض افتح الروح للنوم الواقف على بابها.. فيدخل.. وأخرج منها إليه، وأنام، ثم أصحو
صباح الخير
صباح الخير أيها العالم الذي يضج خلف النافذة
صباح ما نسيته في نومي
صباح ما لم أحلم به
لا شيء في ذاكرتي
لا وجوه عبرت منامي
أشعل سيجارة
أفتح الستارة عن صباح حار
كم الساعة الآن؟ أي يوم هذا؟
صباح الخير.. أين حصيلتي ؟
ولماذا
لماذا لا يحلم المتعبون حين ينامون؟
وجـوه لا تأتي في النوم
اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا
لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر
ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما
كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم
ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن
وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت