همس الجنون

ربما قالت له أمه: افتح الباب يا نجيب، ففتحه الذي أدخلنا من أبوابه الوسيعة إلى أزقة وشوارع، وحكايات تزدحم في القلب، فإذا الوجع جميل حين يتورط القارئ فيما صنع المقروء، حين يستظل الفتى بسعفات نخلة ليرى ما فعلت الروايات من حيوات هادرة بالأحوال والتحولات
كان الفتى يهرب من قيظ قرية على هامش الملكوت، يركنُ إلى بقعة ظل، وفي يده كتاب من كتب النجيب، يسرقه الوقت، ويزعق الجوع في معدته، ولا يرفع رأسه إلى صوت أحد، لا يبصر غير ما يقرأ، حتى تقف الأم بصوتها على رأسه: “الغداء يا غالي”، فإذا انتصفت الرواية حاصرته شخوص من خيال، كأنما خرج عاشور الناجي متبوعاً بضجيج الحرافيش ليزاحموه بقعة الضوء وظل السعفات، كأن بشراً يحلقون حوله، بشراً يقفزون من سطور النجيب فرادى وجماعات، وعلى وجوههم أسماء بيوتهم: السكرية، قصر الشوق، خان الخليلي، الطريق، بداية ونهاية، ودنيا الله
ربما قالت له أمه: افتح الباب يا نجيب، ففتح النجيب كل باب ونافذة، فإذا الفتى الذي يستظل بسعفات مائلة، يجد غايته ومقصد روحه، فيحلم في ضيق المكان لو أن المكان اتسع لأمنية وخاطر، كأن تمضي به قدماه من تراب القرى إلى أسفلت المدن، كأن يمشي  إلى مدينة يمشي على أرضها هذا النجيب
كان الفتى يقول – في زمن بعيد وعلى مسمع من نخلة وحقل -: كيف لحبر وقلم أن يبتكرا السحر، أن يجعلا أبيض الورق ألواناً وظلالاً من شغف ووجد، حزن وبهجة، ندم وعناد؟
يتذكر الفتى الآن كيف تبعت قدماه قلق روحه، فأخذه القطار إلى مدينة قاهرة، كيف سكن غرفة في بيت على أطرافها، وكلما غلبه اليأس همس في حزنه: لا أستبدل طيبة القرى بقسوة المدن. كان يرى في المدينة اقتراباً من جنونه، ومن صنعوا جنونه بالحرف والحبر، وحين دارت به ساعة العمر والتجربة، رأى من كان يسحره تحت نخلة البيت العتيقة
 
هكذا، ذات مصعد كهربائي، راقب وقفة النجيب متكئاً على عصاه، ارتج الفتى في صمته، وأخذته الرهبة إلى طوابق لا يصلها المصعد بحديده ورخامه، انزاحت سعفات النخلة المائلة عن السحر الذي قرأه، ليقف أمام الساحر ذاته دماً ولحماً
كم من ثواني الوقت أسقطها المصعد في اتجاه الطابق السابع؟ لا يدرك الفتى الآن سوى ما وقع في قلبه من بهجة وارتباك، ولم ينفق الثواني عبثاً، إذ حفظ كل ما استطاع من ملامح الساحر، حركة يديه، التفاتة رأسه، وشامة وجه طالما رآه مجرد صورة في جريدة، أو ظهر غلاف
    مساء الخير يا أستاذ نجيب
قالها الفتى ولم يقلها، قالها لأنها أقوى من كتمانه، ولم يقلها لأن رجفة الشفتين أعادت الكلمات إلى سقف الحلق، فالتبس عليه الأمر، وظل لشهور يسأل نفسه: هل قلتها؟ غير أن دوران العمر أنصفه، وصعوده درج التجارب وضعه غير مرة أمام ساحره، فحاوره، وصافحه، وجلس إليه، وانتقم الفتى من خجل المصعد وارتباكة المصادفة، بأسئلة وصور، وعرف عن النجيب ما عظمه السابقون عن التواضع، وما وصفه أهل الحكمة عما ينبغي للحكيم أن يقوله، وما حكى عنه الظرفاء عن خفة الدم، والدعابة
الآن يسأل الفتى: كيف كان النجيب ينام قرير العين تاركاً بشراً يضجون بين سطوره؟ كيف ابتكر لهم الاسم والفعل، والورطة والعقدة؟ أي زيت كان في مصباحه، فلا ينقطع بعد الموت ضوءه؟
مقال ( كاريكاتيزما ) – مجلة الصدى – عدد 1 مايو 2011

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

في البدء كانت جميلة

المقالة التالية

ديانا .. ماذا لو كانت هنا؟

اخر المقالات من تحت ظلال الآلهة

سارقُ النار

لا لغة تقدر أن تكون الريح إذا شاءت أن تصف الريح إلا إذا كان كاتبها عاصفة،

العبقري

  كان غبار القرى لا يزال رائحة قميصه حين كانت تتكرر مصادفات المصعد في المبنى الزجاجي،

ما أجمل ضحاياك

قبله هل كان الشعر يمشي على الأرض؟ قبله لم يكن للشعر قدمان، كان له أجنحة لا

من يكره فيروز؟

  أنا أكره فيروز طاوعه لسانه وقلبه مرة ونطق بها، تورط في غضبة الغيرة، ولم يكن