لم أكن جاهزاً للبكاء ذلك الصباح الذي فتحت فيه صندوق البريد الإلكتروني لأجد الزميل خالد حنفي ينتظرني واقفاً بملابس الحداد، وفي ثلاثة أسطر يطلب مني أن أكون حاضراً في ملفه الاحتفالي بالشاعر الصديق مشهور فواز الذي كان يعده للنشر في مجلة “الشعر”.
أغلقت صندوق البريد الافتراضي، وأشعلت سيجارة من أخرى، وكتمت سؤالي الذي يخيفني: هل مات مشهور؟
عدت إلى روتين الصباح وقهوته، وتجاهلت الرسالة والسؤال، واسترحت لظني أن مشهور لايزال حياً، وجميلاً في حضوره، هنا على ضفاف الخليج، معلماً وشاعراً وناقداً منذ أن ترك القاهرة في طائرة حطّت به على أرض الإمارات• حتماً هو هنا قريب مني وأستطيع أن أتصل به عبر الهاتف إذا أردت.
يومان فقط قضيتهما في ابتكار حيلة للنسيان والغرق في التفاصيل المكرّرة والاعتقاد الكاذب بأن كل الذين أحبهم لايزالون بخير، طالما أنهم في ثلاجة الذاكرة نائمون تحت رعايتي.. يومان فقط ثم فاجأني خالد حنفي ثانية عبر صديق ثالث بطلبه: “اكتب لنا عن مشهور الذي عرفته”. لماذا أراوغ وأتحايل وأدفن رأسي في الرمال؟ مات مشهور منذ زمن، لن أراه أبداً، ولن أسمع صوته، أو أراقبه وهو يشرب شايه المرّ، أخذه الموت في عربته من غربته إلى غربته، وترك لنا نحن أبناءه الشعريين محبته الكاملة. نعم..نحن أبناءه الشعريين، منا من فشل في تكملة الطريق، وآخرون أخذوا من الشعلة ما يضيء كلماتهم وانكساراتهم، لكننا رأيناه جميعاً يوم كانت أرواحنا مسكونة بالوهج والغامض البعيد، يوم ضاقت الجامعة عن احتوائنا، فذهبنا إليه، كان الشاعر الصديق عبدالناصر هلال دليلنا إلى معرفته، كان مشهور يستقبلنا- حين ينزل إلى الصعيد- في بيت العائلة في أطراف سوهاج، البيت العتيق المملوء برائحة الحبر والأوراق القديمة والشاي والضيوف الذين لا ينقطعون عن زيارة الأسرة وعميدها، الأب الشاعر عبدالله الأنور ومن حوله أبناؤه فولاذ ومشهور وسماح وأوفى، كل شيء كان في البيت مختلفاً، كل شيء كان يدل على الحياة التي قرأناها ونتمنى أن ندخلها: الأبوة العميقة، المحبة الجليلة الهادئة، حتى أسماء الأبناء والأحفاد تختلف، فالأب الذي اختارها لا تفارقه أمهات الكتب، وحين رُزق بالأبناء والبنات أعطى كل واحد اسماً مغايراً: فولاذ، مشهور، سماح، وأوفى.. (كأننا دخلنا بيتاً كبيراً من الشعر). لم يكن مشهور كلمة عابرة في بيت عبدالله الأنور، كان جملة مفيدة داخل السياق وخارجه أيضاً، وحين أذكره تستيقظ في ثلاجة الذاكرة وجوه وأسماء أهرب من حضورها العميق الملوّن بالغياب في زحام الحياة: سماح عبدالله، أوفى عبدالله، عبدالحكم العلامي، عبدالناصر هلال، ياسر الزيات، ومحمد العسيري (أرى وجوهاً لا أذكر أسماءها.. من يغفر نسيان الغريب المغترب؟). كبرت أحلامنا في رعايته، وازدحمت أدراجنا بالكتابة التي استعرناها منه، وقدّم لنا تجارب لآخرين فتشنا عن أعمالهم وحفظناها، وطالما توقفنا أمام قصائده.. كان يمسكنا من قلوبنا حين يكتب عن الحب، عن تلك المرأة المكتملة به، الغارقة في موج الإسكندرية، أو المتأبط ذراعها في المترو (حين جاء المترو)، أو المتداخلة في تفاصيله كما الظل.. لم يكن حبه إلا فلسفة وجدلاً مع الذات والكون، ولم تكن كلماته إلا تأويلاً للحياة والموت معاً، كنا نشعر بأنه بوابة ضخمة سندخل منها إلى القاهرة، ربما لأنه كان بحضوره واختلافه وجماله الشعري والإنساني بالنسبة لنا نحن الجامعيين الجنوبيين نموذجاً لما يجب أن نكون عليه لو أردنا الذهاب إلى القاهرة سعياً وراء أحلامنا، هو عاش حياته وكتبها، ونحن عشنا ما كتبه ووضعنا أنفسنا مكانه، مع تغيير بسيط في الأسماء والأماكن (حاولنا تقليده حتى في الحياة.. هل سرقنا منه بعض روحه؟)..لم يكن في مقدورنا أن نرى أو نحاور أو نستمع إلى أدونيس أو الماغوط أو أنسي الحاج أو شعراء السبعينات، كنا نقرأهم فقط، فيما هو يحدثنا عما رأى.. كان مرآتنا السحرية التي سرقها الموت أخيراً بعد أن سرقها الغياب والغربة. أغلقنا كتاب الجامعة وفتحنا عيوننا على المدينة الكبيرة القاهرة، لم نعلّق شهاداتنا على الجدران، بل علّقنا أبصارنا خلف النداهة الغجرية التي طاردتنا بحلم الكتابة والمقاهي الأدبية والنشر والفتيات الناعمات اللاتي يأتين بالشعر، لأنهن يملكن استفزاز المخفي تحت جلودنا السميكة. استقبلتنا القاهرة في حياد جماعة وفرادى، البعض استقر فوق أسطح البنايات، والبعض الآخر في غرف أسفل العمارات الشاهقة، ثم ارتحنا إلى ابتسامته، ها هو مشهور، ها هو إنسان نعرفه وسط هذا الزحام، ضمنا إلى واحته، وصارت غرفته المرتبة جيداً في حلوان ملتقى مخاوفنا وتطلعاتنا، جملة من الأيام الطويلة أنفقناها بالقرب منه، ثم وزّعتنا عربة الحياة ولقمة العيش، وقست قلوبنا على أنفسنا وعلى من نحب، وبنى كل منا داخله ثلاجة ضخمة وضع فيها أحبته وأصدقاءه، وأغلقها ليقدر على جعل الحياة ممكنة. ذهب مشهور إلى الخليج، وبقينا نحن حول النهر نقاوم جفاف الروح والأحلام، حتى ذهبت مثله إلى الخليج، وهاتفته قليلاً ثم مارست لعبتي القديمة، حاولت إعادته غصباً إلى داخل ثلاجة ذاكرتي، أردت أن أبقيه كما رأيته آخر مرة في غرفته في حلوان، أردت أن أحفظه بعيداً عن الزمن الذي أضعف قلبه وأسكنه حزناً كبيراً. اليوم أكتب في ملف احتفالي (جنائزي) لأبكيه، غير أنني بحاجة أولاً إلى أن أصدّق رحيله، وقبل ذلك كله يجدر بي أن أفتش عنه في ثلاجة ذاكرتي. لم يمت مشهور فواز لم يمت الذي كتب أن الموت ميلاد وإذا كان قد مات كما تقولون، فهل ثمة هاتف محمول للموتى؟!