هابي بيرثداي تو يو
هابي بيرثداي تو يو
خيل إليه وهو ينصت إلى الأغنية من جهاز الكاسيت أن المطرب يتقافز وسط حفنة من الصبايا، وأن البالونات الملونة تملأ كادر المشهد، وأن ثمة شموعاً تتناثر في الخلفية كديكور ساذج وبديهي لأغنية عن عيد الميلاد.
كانت جالسة تنظر إليه وهو يرتب طاولة الاحتفال.
هابي بيرثداي تو يو
ازداد صخب الموسيقى، ظن أن المطرب وفرقته سيخرجون من الكاسيت إلى غرفة الصالون الضيقة، حبس أنفاسه وتابع وضع باقة الورد والتورتة، وشمعتين صغيرتين على هيئة رقمين متجاورين يرمزان لعامها الجديد، اتسعت ابتسامتها حين أشعلهما، اختفى صوت المطرب تاركاً الموسيقى فغنت هي أمام شمعتيها( هابي بيرثداي تو مي ) فيما كان هو يركز في آخر المقطع ليقول( تو يو) مأخوذاً بذاكرة القرى، مسكوناً بوجه البائع العجوز في دكانه القديم ذلك الذي كان يظن الأطفال انه ولد وشب وبلغ السبعين من عمره داخل الدكان، كأنما لم يبرحه ومرت السنوات به بائعاً متجهماً، يخافه الصغار ويتجنب الكبار غضبه عند الشراء حين تتضاعف الأسعار وتغلق الدكاكين البعيدة فيرضخ الناس لغلائه ويشترون بغيظ ثم ينصرفون غاضبين، يلعنونه بعد بضع خطوات ويدعون عليه بالمرض والخسارة.
هابي بيرثداي تو يو
أعاد الأغنية ثانية ليهرب من أشباح ذاكرته، وحين أطفأت شمعتيها تسرب إليه ذلك المشهد البعيد في طفولة لم تعرف للشموع وظيفة غير الإنقاذ من العتمة والعقارب حين كان ينقطع التيار الكهربائي فتغرق القرية في الظلام، ويتحسس الصغار ثياب آبائهم بحثاً عن طمأنينة، فيما يذهب أكبر الإخوة بعصاه إلى الدكان الرابض في أطراف القرية، هناك يبقى البائع العجوز واقفاً ونحيلاً كعود قصب جاف، يبيع الشموع الصغيرة ويمرر يده اليابسة على لحية بيضاء أطلقها في آخر عمره، فيما يعلق في يده مسبحة طويلة ورخيصة تغير لون حباتها، وفي السر يسخر الخبثاء ويسألون عما يقوله حين يسبح ربه وهو الذي يغشهم في الكبيرة والصغيرة دون أن تطرف عيناه.
هابي بيرثداي تو يو
قالها وهو يداري ذلك الزحام الذي يملأ صدره، وهو يقاوم زحف أشباحه القديمة التي تشده إلى عتمة البيت الكبير التي لا تطردها شمعات صغيرة كأقلام الرصاص لا تكاد تشتعل حتى تنطفئ فيواصل بعينيه الضيقتين متابعة ضوئها الخافت ملتصقا بأبيه أو أمه خائفاً من عفاريت المقابر وغابة النخيل القريبة، وحين يغلبه النعاس يغطي وجهه بيديه حتى لا يرى العفاريت تمشي على الجدار.
هابي بيرثداي تو يو
ابتسم وهو يلتهم نصيبه من التورتة حين اطمأن إلى مسافة آمنة بينه وبين أشباحه لحظة ضغط بإصبعه على زر الكهرباء فاكتسى البيت بالضوء، وأيقن أن للشموع في المدن غاية أخرى غير إنقاذه من عقارب القرى.
هابي بيرثداي
اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا
لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر
ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما
كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم
ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن
وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت