نم يا غالي.. نوم العوافي

 

لم يكن ثمة شيء غريب حوله الغرفة ذاتها بجدرانها وشبابيكها التي تقشر خشبها، وتآكلت أطرافها، والسرير المائل قليلاً باتجاه الحائط اختفت قوائمه في باطن الأرضية الترابية التي تحرص أمه كل مساء على رشها بالماء وكنسها، وصوره في إطاراتها القديمة تتوزع بلا ذوق على الجدران وتفصل بين كل واحدة وأخرى صورة للجد أو الأب أو الإخوة أوآية قرآنية بالخط الكوفي

حرك عينيه وشاهد نفسه في صورة جامعية حين كان يلقي قصيدة عاطفية عن الحب الضائع، كان يافعاً وفي عافيته وهو يرفع يده اليمنى كأنما يشير إلى نجمة في الأفق، وفي يده اليسرى ورقة القصيدة التي لم يعد يذكر منها إلا مقاطع متفرقة، حاول أن يستجمع ذاكرته فلم يستطع، حاول أن يتذكر تاريخ الصورة، اليوم، الشهر، أو السنة، فاختلط عليه الأمر، تركها واستقر بعينيه على صورته في طفولة بعيدة، ربما كان في السادسة من عمره، وجه ممتلئ، عينان ضيقتان، وحزن لا يمت للطفولة بأية صلة، أخذ نفساً عميقاً وكتم حسرته في ذل أمام حاله الذي لا يرضي أحداً

لم يكن ثمة شيء غريب حوله وهو مريض ممدد على السرير بلا أمل في النجاة، ورائحة الفراش كبصمة وراثية تتناقل من جيل إلى جيل، رائحة طالما اشتمها في ملابس جده وأبيه، رائحة طيبة كعطر عائلي لا يتبدل.

– مالك يا غالي؟ باكية تربت أمه على صدره، وتجس جبهته بيدها اليمنى، ويتقطع قلبها على ابنها البكر، ابنها الذي كانت تزهو به أمام الأخريات، ها هو يعود إليها بعد غربته وحيداً مريضاً، هاهو ملقى أمام عينيها مجرداً من كل صحته ونجاحاته وأصدقائه، هزيلاً لا تقوى قدماه على حمله خمس خطوات قصيرة، إنه الآن ابنها بلا أية إضافات، ابنها الذي لا تنادي غيره بلقب (الغالي)، وهي وحدها دون كل من عرفهم لا يعنيها ما يملك من مال أو نجاح، هو ابنها الذي تحبه دون إضافات.

– أنا بخير

كلمتان خرجتا من بين شفتيه ثقيلتين كجبلين من الرمال، قالهما ليطفئ حريق قلبها عليه، وحين تملكه الضعف وكادت دموعه تفضحه هرب إلى حيلته..

– سأنام..

– نم يا غالي .. نوم العوافي

وجرت قدميها، أمه التي كبرت عشرين عاماً منذ عاد إليها في مرضه، جرت قدميها وهي تدعو له بالشفاء وفي قرارة نفسها تعلم أنها ستفقده قريباً، تعلم أن هذه رقدته الأخيرة لأنها لم تره كذلك من قبل أبداً، وهي تعرف أكثر من غيرها عناده مع المرض، تعلم وحدها أنها رقدته الأخيرة لأنها تشعر في قلبها بأنه لأول مرة لم يعد قادراً على العناد، وربما لم يعد راغباً فيه لسبب ما لا تعلمه.

– سأنام..

– نم يا غالي نوم العوافي.

لم يكن يريد النوم بقدر ما كان يريد إنقاذها وإنقاذ نفسه من عذاب الموقف، وحين أغلقت الباب وهي تلقي نظرة الخوف عليه، وضع يديه على وجهه وبكى أمام عيون الصامتين في الصور المعلقة، بكى وهو يسمع من بعيد نباح الكلاب على الجسر الترابي أمام البيت، شعر كأن غريباً يستعد خارج البيت لحمله بعيداً، ازداد بكاؤه مرارة وهو يرى كيف انحسرت عنه أضواء وضجيج المدن التي زارها وعاش فيها، كيف أصبحت المقاهي الزجاجية والمطاعم الرخامية والعربات المكيفة كأنها مشاهد فيلم شاهده يوماً ولم يعشه واقعاً، وكيف انتهى به الحال على سرير ولمبة مدلاة من السقف ورائحة تذكره بمن حملوها قبله إلى مقابر العائلة على بعد خمسمائة متر من سريره.

ببطء حرك جسده ونام على جانبه الأيمن ويده أسفل الوسادة كما يحب أن يضعها دائماً، لم يمسح دموعه فظلت تتواصل في خيوطها مدفوعة بحنين قاس إلى وجه (حبيبة)، أين هي الآن؟ ماذا تفعل في مسائها؟ هل تذكره؟ هل تضحك من قلبها وتوزع ابتساماتها كطفلة لا تحسب حسابه في هذا الليل؟ هل ستصافح قاتليه وتغفر لهم دون أن ترى دمه على وجوههم وأيديهم؟ شهق بصوت كتمه سريعاً حتى لا تسمعه الأم التي تروح وتجيء أمام باب الغرفة، قلقة ومتأهبة لأي همسة نداء تصدر منه.

– وجهك آخر ما أتمنى أن أغلق عيني عليه.

في زمن قديم كان يقولها لـ (جميلة) فتغضب وتهدده بالبكاء، وها هو اليوم مثل بيت مؤرق بساكنيه الذين أقاموا فيه ثم تركوه بلا ندم، بيت مهجور لاتدخله إلا امرأة واحدة، ولا تخافه إلا امرأة واحدة، ولا تموت حزناً عليه إلا امرأة واحدة هي أمه.

سحب يده من تحت الوسادة ومدّها إلى محفظة نقوده، أخرج صـــورة (جميلة) وتأملها باكياً، بقي على حاله محدّقاً في الصورة الصغيرة حتى دهمته نوبة الألم الخرافي، عض على شفتيه حتى لا يصرخ مستغيثاً، كان ألم المرض هذه المرة حاداً، ولم يكن راغباً في المقاومة، ليس لديه شيء ليقاوم من أجله، فلماذا لا يستسلم، لماذا لا يغمض عينيه ويذهب، كل ما عاشه لم يعد إلا شيفرات حادة في ذاكرته، وكل من أحبهم لم يعودوا غير أرقام على الهاتف الذي لا يرن أبداً، أليس في موته راحة له ولأمه وإخوته، تذكر كلمات نيتشه: “إن شخصاً واحداً تعيساً يكفي ليسمم منزلاً بأكمله ويكدر الجو فيه”، تمنى وهو ينظر إلى صورة (جميلة) أن يريحه الله ويريح البيت.

كتم صرخة ألم ثانية، ظامئاً إلى أقصى حد لسماع صوت (جميلة)، مد يده بصعوبة إلى الهاتف على طرف الطاولة المجاورة لسريره، كان مختفياً تحت كومة الأدوية، حركه بإصبعه قليلاً واستعد للإمساك به، وحين هم بالقبض عليه بيده وسحبه، سقط الهاتف على الأرض وانفصل الغطاء والبطارية عنه، مال برأسه وهو ينظر بحسرة إلى الهاتف، مزق صورة (جميلة) قطعاً صغيرة وابتلعها، وهو يشعر بشيء غريب يسري في جسده، خدر لم يعرف إن كان نوماً أو موتاً، ألقى نظرة أخيرة على صورة طفولته على الجدار، وأغمض عينيه

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

تهريب عاطفي

المقالة التالية

تصبح على خير.. أحلاماً جميلة

اخر المقالات من تأويل جميلة

في البدء كانت جميلة

في البدء كانت الكلمة، ربما، لكنني أظن أنه في البدء كانت النظرة، وكانت جميلة، كأن ترى

اعتذار الفراشة

أحط بين يديك يا جميلة، لأعتذر عن حماقة صاحبي، جناحاي معطلان، جناحاي ثقيلان بالذنب حتى ترضين،

صائد التفاصيل

  الجحيم في التفاصيل، ربما.. وأولئك الذين يعيشون بذاكرتهم البصرية قد يكونون في لحظة ما أتعس

ليست مجرد امرأة

– اكتب، قل شيئاً، أي شيء، أكمل روايتك اليتيمة، لا تترك رقبتي هكذا دون جوهرة تليق