أقولها دائماً في وجهه ولا أخافه: أنا لا أحبك.. ولا أطيق قصائدك.
لا حيلة لي أمام نبيل أبوزرقتين غير الهروب والاختباء، تماماً كما يختفي اللص من شرطي محترف، أنا اللصُّ الذي يحمل جرائمه وذنوبه فوق كتفيه، وهو الشرطي الذي يفتح لي في قصائده كشف حساب أسود مملوءا بشروري تجاه قرية بعيدة.. وأهل طيبين ينامون على أمل بعودة ذاكرتي التي أسقطتهم بقسوة.. وعناد.
هذا الشاعر الذي يجاور التفاح كي لا يكون عرضة للنساء هو ذاته الذي يتعذّب: ” يا إلهي، الطيورُ/ تعبر بيت جدّي/ الذي ورثناه بصعوبة/ أريد باباً/ يتذكر حنانه “
ليس سهلاً- إذن- أن تصادق ” أبوزرقتين ” ثم تنام ليلاً قرير العين، وليس ممكناً أن تقرأ أعمال ” أبوزرقتين “•• ثم لا ترى نصف الكوب الفارغ• إنك في الحالتين- الصداقة والقراءة- تصبح مسكوناً، ومأخوذاً كصوفي، ويقظاً في حواسك أمام تاريخك الخاص، وذاكرتك المغلقة التي تنفتح على يديه كسرداب قديم منسي: ” يصدف أُمي تدعوني/ تهمسُ/ خذ لكَ جسداً/ تهزم الموت.. ”
ربما لهذا كله وغيره أحب الشاعر والإنسان نبيل أبوزرقتين إلى حد إعلان خوفي من محبته في صيغة نفي مراوغة وحين صدرت مجموعته ( إكيو كونيات) عن دار الانتشار العربي فرحتُ بحذر الخائف من ذاكرته المشحونة التي تقودني بدهاء شعري إلى مقبرتي الطينية المنتظرة على أطراف” البندار” . ثمة نداءات غامضة تجيء من سطوره وكثافته كأنها ترانيم سحرة ورموز بشر خرافيين إن فسرتها وقعت في جنونها، وإن اخترت الصمت أمامها ضاع اطمئنانك في تأويل مقاصدها.
” إكيو كونيات ” ليست مهدئاً للنوم، ولا لغة لتبادل الألفة، إنها تقاطع مدهش بين الهستيري والكذب الممتاز، ولكنها على حد بيانه : ” ساطعة في ترتيب كون الفوضى بصلابة وعن طيب خاطر.. “، وليست مبالغة إن قلت هي إضافة ليس لجنون ” أبوزرقتين ” بل وللتجارب الشعرية المدهشة في زمن صار التكرار فيه مدخلاً لأنصاف الشعراء. وها هي مرآة ” أبوزرقتين ” الشعرية تكشف ادعاءاتهم.
أيام متتابعة منذ حصلت على ” الإكيوكونيات ” وأنا أزيحها من أمامي، ثم أدفنها بين تلال الكتب والأوراق خائفاً من أن تطلق قصائده الرصاصة داخلي، لكنني- في حالات أحبها- كنت أسحب الكتاب كما يسحب الساحر مفاجأته وأذهب معه إلى حيث ” أتأمل النوايا ” و” ترتطم ذاكرتي بشجرة السماء” و” أتذكر بحسرة أمانة البكاء ” و” أحتفلُ بمسافة مستحيلة تلتصق بي”.
إنها إكيو كونيات ( أبوزرقتين) .. مفتاحه على كون الأشياء والحواس والذاكرة ودليل أرواحنا إلى الذات المطفأة عمداً بفعل الرتابة.. والنسيان.
وإذا كان اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات قد احتفى بالشاعر وكتابه فإن فشلي في تلبية دعوة الشاعر الصديق نبيل أبوزرقتين في الحضور ليس له ما يبرره.. غير أنني أستنجد بشاعريته حين يقول:
” الصداقة نــذالة طيبة “. وها أنا الــيوم أحقّق نبوءته الشعرية بجدارة•• وأفــوز بلقـب ” صديق نذل بدرجة امتياز!” .
نذالة طيبة

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا
لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر
ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما
كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم
ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن
وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت