ميتات الشاعر

/
 
 (1)
في كل ليلةٍ يقتل الشاعر حبيبته، يجرها من شعرها ويعلقها على الجدار باكية، ثم يراقبها باكياً وهو يهذي: تأخرتِ كثيراً يا حبيبتي. كان باستطاعته أن يدعوها للعشاء أو حتى للغناء تحت ضوء خفيف، وأن يقول لها: أحبكِ، لكنه لا يريد ان يفسد قصيدته القادمة، لا يريد أن يكتبها هكذا جميلة وتافهة بلا ذنوب، وكلما أحبها أكثر ورغب في قصيدته أكثر، كلما صنع لحبيبته ذنوباً كبيرة، وجهز لها مشنقة في سقف غرفته، لذلك عادة ما يفكر لها في ذنب جديد كل مساء، كأن يتهمها بالجلوس أمام البحر دون أن تتذكر سفنه الغارقة بين يديها، أو أن تمر أمام حديقة ولا تطلق اسمه على شجرة واحدة من أشجارها، وربما خاصمها بقسوة لأنها نسيت أن تسأله كما سألته بائعة البيتزا يوماً: من أين اشتريت حزنك يا سيدي؟  
(2)
في كل ليلة تقتل الحبيبة الشاعر، تجره من قميصه وتعلقه باكياً على الجدار، ثم تراقبه باكية وهي تهذي: تأخرتَ كثيراً يا حبيبي، لذلك تبتكر ما لا يتخيله الشاعر من عذابات تليق بروحه، وقد روي الكثير عن أفعالها التي لم يكن للنساء علم بها من قبل، كأن تترك أصابعه تلوّح في العراء.. وتمضي، أو قد تتعمد أن تتجاهل طفولته المعلقة بضجيج القطارات فلا تهديه قطاراً كهربائياً في عيد ميلاده، وربما جاوزت  الحد فلم تخبره عن عصفور حط على شرفتها ذات صباح، أو كيف قبضت بأصابع قدميها على حبات رمل الشاطيء دون أن تتخيل سماء عينيه فوقها، ولعلها غنت عن قصد أمامه أغنية لا تشير إليه بكلمة، ذلك أن الحبيبة تسدد طعناتها برفق قاصدة أن يموت الشاعر ببطء عظيم.
(3)
في كل ليلةٍ يقتلُ الشاعر نفسه، يجر روحه من يديها، ويعلقها باكية على الجدار، ثم يراقبها باكياً، ويهذي: تورطتِ كثيراً يا روحي. كان يمكنه بسهولة أن يجلس إلى روحه بهدوء وحكمة، وأن يجد تأويلاً لحيرته الأبدية، أن يفهم لماذا تقفز به من جبل شاهق لتنفس هواء جديداً، ولماذا تغريه بالمستحيلات، وكان بمقدوره أن يعقد سلاماً مؤقتاً بينه وبينها، وأن يمضي بقية حياته فارغاً من السؤال والتمني، غير أن الشاعر وروحه شريكان في مؤامرة واحدة: الموت أو المغامرة.
(4)
في كل ليلة تقتل الحقيقة الشاعر، تسوقه أمامها بالعصا كطفل مذنب، وتعلقه على الجدار باكياً، ثم  تراقبه باكية وهي تهذي: تعبتُ منك كثيراً يا سيدي، أفسدتني بما يكفي، نسبتني إلى أوهام لا حصر لها، وأطلقتَ اسمي على نساء كاذبات، فتوقف عن الجنون  والجنوح، لا تمضي خلف الفراشات إلى النار، لا تفتح قلبك الذي أغلقته بالمرارات والألم، ادخل صمتك وشد الغطاء على حزن عينيك، وتذكر من قالها بعد عضة الندم: لا تصدق كل ما تسمع.. ولا نصف ما ترى.
 

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Default thumbnail
المقالة السابقة

مطر خفيف على زجاج

المقالة التالية

وقالت الحياة: هذه قبضة يدي

اخر المقالات من الأحزان الكاملة

مطر خفيف على زجاج

(1) مطر خفيف على زجاج الأصابع.هي عشر جنازات في يمينه ويسراه، عشر جنازات يصافح بها الناس،

غابةُ الأنثى

     قالت الأفعى لصغارها: رداؤكم النعومة وأنيابكم الموت، لا تثقوا بغير طعم السم، وبدلوا الجلد

دعها تمضي

فِي الغرفةِ التي لَهَا نافذةٌ مِنْ زجاجٍأقفِزُ لكنَّ جَسَدي لا يتبَعُنيأصرُخُ دونَ صوتٍ فمِي حفرةُ ماءٍويدَاي