مياه ليست زرقاء

إذا أردت أن تعرف عمق البحيرة، عليك أن تأخذ مجرى النهر عكسياً، لتعرف عمق العين التي يأتي منها الماء”.
حاصرني هذا القول المأثور، وفي ظل هذا الحصار النفسي رافقني سؤال ثقيل ومزعج كان يطل برأسه كثعبان كلما ظننت أنني استرحت من تعب التفاصيل والأسئلة.
سؤالي يتفرع إلى عدة أسئلة، هي: ما معنى أن يكون كل منا “بحيرة”؟ وكيف يصبح كل منا “عميقاً”، قياساً إلى عمق نبعه الأول؟ وكيف – ثانية – نقيس درجة العمق في نهاية سفرنا المعاكس لحركة مجرى النهر؟
وإذا جاز لي أن أفسر القول المأثور تفسيراً واضحاً، فسأواجه صراعاً كبيراً مع رمزية القول ودلالته.
وفي هذه اللحظة التي أمشي فيها إلى الخلف، في هذه اللحظة التي أبحث فيها عن العين التي صنعت “بحيرتي”، أكتشف أن قياس العمق ليس بهذه السهولة التي تخيلتها، وليس بهذه السطحية التي توهمنا بها القراءة المتعجلة للقول المأثور.

أظن أننا لا نستطيع أن نكون بعمق النبع ذاته إلا إذا بقينا بدرجة أو أخرى على امتداده الطبيعي، إن وجودنا المتحقق في مجرى الماء، هو وجود قائم على قوة وديناميكية النبع أولاً، ثم تأتي بعد ذلك الظروف الطبيعية والتجارب التي توفر لنا قوة دفع إضافية للتطور والسريان، بل والتنوع والمغامرة، على أن تبقى عيوننا مفتوحة على صلاتنا بالنبع، وتبقى شراييننا متصلة بالتدفق القادم من هناك. لنقل إذن إننا – باعتبارنا موجات مياه – يمكن أن نصنع عمقاً موازياً للنبع، بل ويمكن أن تكون بحيراتنا – التي هي نحن – أكثر عمقاً من عيون المياه التي جئنا منها، لكن انقطاعنا التام عنها هو بداية الجفاف، مهما بدا هذا الأمر بعيداً ومستحيلاً. أين إذن منابعنا الأولى؟ وكيف نعثر على عمقنا الذي هو تحقق وجودنا، وهويتنا، وإنسانيتنا؟ هل منابعنا الأولى هي: العائلة، البيئة، المجتمع، النموذج والقدوة، التعليم، والثقافة، بكل ما تشمله هذه المسميات من قيم وتقاليد إيجابية أو سلبية، أم أن منابعنا الأولى هي بالضرورة فطرتنا الأولى؟ لا أعرف، لأنني عادة أتبع جنوني بالأسئلة، وأظل أركض خلفها كطفل صغير مهووس باللعب تحت المطر، حتى وإن تحول المطر إلى عاصفة لا طاقة لي عليها. قد أقول في اجتهاد شخصي إنني مغرم باقتراح إنسانيتنا لتكون النبع الذي يجب أن نعود إليه لنقيس عمقنا الحقيقي، لكن حتى هذه”الإنسانية” تصبح إشكالية بسبب غموض معناها واختلاف تفسيرها من شخص إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، وعلى سبيل المثال فالإنساني لدى بعض الثقافات هو قتل المريض الميؤوس من شفائه تحت مسمى القتل الرحيم، وفي الوقت نفسه فإن هذا الفعل يعد جريمة لا يمكن غفرانها في ثقافات أخرى، وحتى إذا أردنا تحديد شروط ما هو إنساني، وما هو غير إنساني، فسنجد أنفسنا في نفق معتم، لأن أية شروط يمكن تحديدها لم تكن متوافرة في عصور غابرة كان فيها المخلوق البشري صورة من اللا إنساني شكلاً وسلوكاً قياساً إلى إنسانيته التالية. أعود إلى فكرة النبع والبحيرة لأقول عن سفرنا المعاكس لمجرى النهر باتجاه العين التي تشكلنا على هيئات متقاربة لها، هو سفر صعب لأننا لحظتها نعبر مسلكاً مهلكاً، لأننا نصعد عكس مجرى تيار الماء، وعلينا قبلها أن نتخلص من شوائبنا، ومن أثقالنا، ومن كل ما علق بنا، وأن نهدم الحواجز والجسور التي شيدناها بجهل أو غفلة بيننا وبين منابعنا الأولى. لن نستطيع الوصول إلى غايتنا إلا حين نصبح أنقياء كمياه النبع، ولن نستطيع التوحد مع زرقة الماء الرائق في النبع إلا إذا كنا في نقاء وصفاء زرقته. هل نستطيع ذلك ؟ لا أظن أن الأمر بهذه السهولة لأننا سنرى جسوراً كثيرة بيننا وبين منابعنا الأولى على تنوعها واختلافها، ولأننا في عملنا المضني لنصبح بحيرات، حملنا في أرواحنا بعضاً من الحصى والغبار والرمل، وهو ما يجعل صعودنا المعاكس باتجاه النبع اختباراً مؤلماً، كما أن الوعي – أياً كانت درجته- يجعل نظرتنا إلى النبع نظرة تساؤلية، نظرة توتر وقلق، لأن أولئك وهؤلاء الذين بقوا بجوار النبع مخلصين ولم ينقطعوا عنه، لم يستطيعوا أن يكونوا بحيرات زرقاء،ولم يستطيعوا أن يكونوا منابع موازية، إنها دائرة جهنمية مفرغة، ثم ماهو العميق وما هو غير العميق؟ وإذا كان ثمة خير عميق منسوب إلى نبع، أليست هناك أيضاً شرور عميقة منسوبة إلى منابع؟وأليس من الجائز أن يتناقض النبع والبحيرة تناقضاً مفزعاً؟

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Default thumbnail
المقالة السابقة

خذي نصيحتي•• يا أماه

Default thumbnail
المقالة التالية

مقابلة متوقعة مع أصدقاء قدامى

اخر المقالات من سيرة الحنين والفوضى

THE VOICE OF ENIGMA

بالأمس قررت أن أكون وحيداً مع صوت “إنيجما”، قررت أن أكون مخلصاً لها لمرة واحدة، وفي