قادتني قدماي إلى المكان الذي أحبه، إلى قاعة البيانو، إلى طاولتي في الركن الهادئ، مستمعاً إلى العازفة التي تلعب أصابعها بمفاتيح البيانو، فإذا بها – دون قصد منها- تلعب بالنار في دمي.
دقائق قليلة وإذا بي محاطاً بأصدقائي الأوفياء، أصدقائي الذين لا يرضون عني بديلاً، أصدقائي أشباحي ورفقاء وحدتي وأسئلتي.. دعوني إذن أقدّم لكم هؤلاء الذين يجلسون حول الطاولة أمامي.. هو أول الأصدقاء، جلس عن يميني فاتحاً عينيه، محدّقاً في وجهي كأنما يراني لأول مرة، كأنما يرصد -بخبث- أثر صداقته على ملامحي.. – سألته بضيق: ماذا بك؟! اتركني في حالي دقيقة واحدة.. – قطب جبينه قائلاً: كن مهذباً ولا تعاملني كمتطفل، أنا لم أجلس إلى جوارك غصباً عنك، لماذا دعوتني إذا لم تكن راضياً عن حضوري؟! – من أخبرك أنني راض بك وبصداقتك؟ – ضحك صديقي “التوتر” ضحكة عالية شدّت انتباه من حولنا.. وقال: أيها الكذاب، لا أحد يعرفك أكثر مني، ولا أحد يرضيك أكثر مني، أنا روحك.. وحياتك، ولن تجدي معي هذه الألاعيب.. – ليكن.. لكنني الليلة لست بحاجة إليك. – الليلة أنت في حاجة لي أكثر من أي وقت مضى، لذلك جئتك بعشرات الأسئلة، وبقدر كبير من القلق، فلا تفسد مساءنا بهروبك الذي لا يجدي، أنا أنت، فدعنا نبتهج معاً بإشعال النار في دمك. هو ثاني الأصدقاء وأعزهم، جلس عن يساري، وطلب فنجاناً من القهوة، كان هادئاً كعادته حين تفور دماؤه، هادئاً وشارداً وإن كانت عيناه حمراوين من أثر الأرق والتذكر الذي يصهل كجواد طليق في ظهره سهم سام لا يقتله ولا يريحه. – سألته بأدب يليق بمحبتي له: لماذا أتيتني الليلة ثقيلاً ومحملاً بخزائن العمر مما مضى؟ لماذا جئت بالخسارات، وروائح العطور، وصدى الضحكات القديمة؟ لماذا أحضرت معك التفاصيل الصغيرة، وصور الأماكن والمرأة المستحيلة؟ لماذا ياصديقي لا تدعني أنام ليلة واحدة دون أن أراك؟ – أنت الذي تشدّني من عنقي، وتجرّني خلفك، أنا الذي تعبت منك، فلا تكذب على نفسك وتتهمني بمطاردتك، صدّقني لم أعرف أحداً مثلك يرهقني بالحنين إلى كل شيء، وأي شيء، وصدّقني لو قلتُ لك إنك ستموت إذا لم أقابلك يوماً. – قلت له وأنا أنشد مساعدته: لكنك لا تعيدني إلى ما أحن إليه، ولا ترد لي ما ضاع مني. – ضرب الحنين كفاً بكف، وكاد فنجان قهوته يسقط من فوق الطاولة، وهمس في أذني: أنت مجنون، لا شيء يعود، ولا شيء يبقى، ولا شيء أو أحد ينقذك مني سواك، تستطيع أن تطلب النسيان، تستطيع أن تزيح المرأة المستحيلة عن روحك، وأن تنعم بالراحة والاطمئنان.. تستطيع أن تقتلني لو أردت. لم أجبه كنت أعرف أنني لو قتلته فسأقتل نفسي، وأن الرصاصة التي سأطلقها على قلبه، سوف تستقر أولاً في قلبي. ابتلعت ريقي الجاف من فرط “حنيني” إلى كل ما مضى، إلى هؤلاء الذين أحببتهم وخسرتهم بفعل الغياب والموت، وأخاف العودة إلى صورهم ليلاً. طلبت له فنجاناً آخر من القهوة، ربما لأرضيه قليلاً، وأقنعه بأن يبقى شرط أن يخفف من قسوته وأحماله. هي ثالث الأصدقاء، جلست قبالتي مثل المرآة، انعكست على وجهها خساراتي واكتشافاتي المروعة فيمن عرفتهم وأحببتهم.. اكتشافاتي المروعة في الحياة وطرقها الملتوية كثعبان ضخم، اكتشافاتي المروعة في نسبة السواد في أرواحنا كبشر، اكتشافاتي المروعة في اللاعبين على الحبال، وفي ضياع إنسانيتنا، اكتشافاتي المروعة في القادرين على أن يكونوا ثعالب وذئاباً بثياب ملونة أنيقة وعطور باريسية.. لم أبادرها بالسؤال. تركت الخيبة في حالها، كانت تلمع كحذاء جديد، ولا أدري لماذا أشبهها بالحذاء؟! ربما لأن أقدامي تأخذني دائماً إليها، دائماً ما أصل حافياً.. مشرداً.. ضائعاً. حافياً على شوارع من الشوك.. مشرداً دون أحد.. ضائعاً خلف أسئلة بلا تأويل أو إجابات.