مزدحم كقطار سائقه أعمى



حدثني صديقي فقال: كنت في العاشرة من عمري حين كانت الكوابيس جاهزة على أطراف سريري، والضوء الخافت من لمبة الجاز كفيل بأن يلقي الرعب في قلبي عبر ظلال مهتزة على الجدران بفعل تيار الهواء القادم من أسفل الباب، والآن ها أنتم ترونني أهذي، أحدثكم عن أشياء لا ترونها، ولا أخفيكم سراً أنني مزدحم كقطار سائقه أعمى.
حدثني صديقي فقال: السيدة الملتفة بالوقت ضربت عامل النظافة بلا رحمة، كان السيد الواقف في شرفة بيته يتثاءب لأن زوجته تكنس البيت في ساعة نومه، والصبي الذي دهسته سيارة بيضاء ضخمة مات بسرعة ولم يبكه أحد، لأن أحداً لم يكن لديه ما يكفي من الوقت ليتأسف، والذي أدار وجهه مع صوت الارتطام لعن الصبي مرتين بسبب ما سماه سوء الحظ، أما التي أخبرت أمها بسر قلبها فلم تحسب حسابها جيداً حين تلقت صفعة على خدها الأيسر، ولأن سائق القطار كان يحفظ طعامه في كيس قديم، تردد ولم يدعُ زميله إلى طعامه القليل، وفي اللحظة التي صمت فيها المؤذن كان العجوز يتحسر على عجزه الذي أقعده عن تلبية النداء.

وفي المدينة المحاط بعضها بمجرى عيون كنا نروي الظمأ بالمياه المعدنية متحسرين على مياه ” السبيل” أمام البيوت الفقيرة، وفي السادسة والنصف من يوم بعيد زغردت واحدة من اللاتي يغسلن حناجرهن بالنميمة، وهي عادة ما تحزن وتفرح للآخرين بدرجة لا يصدقها إلا أولئك الذين لا يعرفونها، ويقول من أجهل اسمه بسبب ما أنا فيه من هذيان: ” عندما يأتي الوقت الذي نعرف فيه كيف نعيش حياتنا يكون العمر قد مضى”، أما صاحبنا الذي مات وهو يضحك فلا يجوز لنا نسيانه لسبب بسيط أنه لم يكن قبلها يضحك أبداً، وفي مساء معتم شديد الحرارة زحفت عقرب صغيرة على فراش طفل ولدغته في رأسه، تحسسها وبكى فأسكته والده بالحلوى مدعياً أنها إبرة ملقاة بإهمال على سريره، وعندما حمله إلى الطبيب بكى الطفل ثانية لحظة حقنه بمصل العقارب، وطالما أن السفر لا يجدي، سأل الأب ابنه: لماذا تنفق عمرك بعيداً، ولم يكن يعلم أن ابنه إن عاد فسوف ينفق عمره قريباً منه وبلا جدوى أيضاً، كان مدرس الحساب يكرهه لأنه لم يحدث مرة أن أجاب عن سؤال إجابة كاملة، وحين يغتاظ رافعاً عصاه وصارخاً في وجهه، يكره الطفل اليوم الذي جاء فيه إلى هذه المدرسة بالذات، وكثيراً ما تمنى أن يذهب صباحاً فيجد مدرسه قد مات، لكنه لم يمت إلا بعد أن علمه كيف يحب الحساب، ولعل صديقنا الذي مات شقيقه في حادث سيارة ولم يبك لحظتها، لم يكن قاسي القلب كما اعتقدنا، كان حزيناً أكثر مما تصورنا إذ بكى بعد شهر بكاءً حارقاً فشعرنا أمام ظنوننا بالخجل، ولما كانت السنة الثانية عشرة وكان صاحبنا يصطاد جالسا فأخذه الحماس فشد صنارته بقوة من ظن أن سمكة كبيرة معلقة في طرفها، فإذا بها خاوية وإذا بالخيط يلتف على يده والطرف الحاد يخترق كفه فيعود إلى البيت والدم دليل مصيبته التي تركت في يده ندبة ربما يفلت منها المال كما يفلت الماء من بين الأصابع، ولأنه عادة ليس كأولئك الذين يضعون رؤوسهم على الوسادات فينامون في غمضة عين، فإنه يشعر كأن خيولاً مجنحة تركض في رأسه فيتقلب ذات اليمين وذات اليسار حتى يسقط في النوم مرهقاً من تتبع أشباحه وأشباهه وأقرانه الذين أخذتهم الطرقات أبعد من عينيه، وكلما قال الآخرون قولاً عن المحبة ركن إلى الصمت لأنه لا يجد لغة كافية تطفئ حرائق وجده، وغالباً ما يسكنه الضجر من الذي يتكرر صباحاً ومساء، غالباً ما يأنس إلى الليل فيمضي فيه باحثاً عن ما ضاع من روحه، متتبعاً الخطى والعطر والكلمات، هارباً من الأمكنة إلى الحجرات المغلقة على الأغنية والخيبة، وحدث ذات مرة أن خاطب الجدار وأعطاه اسم صديق، وخاطب النخيل واستراح لسعفة تميل على الأرض، وخاطب البحر كشاهد على خسارته، وهكذا لا يستقر على حال، يهذي بلا نهاية، ويداه ممدودتان على الطريق، أعمى ينتظر، خائفاً أن يلقى حتفه بين الحنين والهذيان.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Default thumbnail
المقالة السابقة

غراب المراثي

Default thumbnail
المقالة التالية

شياطين اللثة

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم

أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت