مخاطبات سيدة الجيم

 

لم تكن تعرف أن اليونانيين القدامى كانوا يتقربون إلى آلهة القمر والصيد (أريمتس) بكعكة كبيرة محاطة بالشموع، ولم تكن تعرف أن خبازاً ألمانياً قد طور هذه العادة اليونانية منذ مئات السنين حين أعد كعكعة بالشموع احتفالاً بعيد الميلاد، فأصبحت رمزاً وطقساً من طقوس العابرين من عام إلى عام
لم تكن تعرف سوى أنها غارقة في الحلم، وراغبة في إسعاده، كأنما تقول له في كل ابتسامة تضيء وجهها الحلو: كن طفلاً يا حبيبي.. وأطفئ شمعتك أمامي
لم يكن يعلم بخطتها الجميلة حين استدرجته إلى معطم صغير في قلب المدينة، جلسا مثل طائرين يلتمسان الدفء في وهج الكلام، حدثها عن طفولة القروي، والشوارع والمقاهي التي عبرت دمه، وحدثته عن اكتمالها بحضوره، وكان بينه وبين روحه يحمد الله أنها لم تتذكر الشموع والكعك، كان مطمئناً وفرحاً بنسيانها حتى لا يتعرق خجلاً أمام عينيها
استأذنت لدقيقةٍ، قالت إنها ستجري اتصالاً هاتفياً خاصاً، وبعد قليل كان محاصراً بابتسامتها وهي تقف أمامه وبين يديها كعكة التشيز بالفراولة تتوسطها شمعة صغيرة، وخلفها جوقة العاملين بالمطعم وهم يغنون على إيقاع صوتها
“هابي بير ثداي••”، كان يود لحظتها أن يهرب إلى أسفل الطاولة، أن تبتلعه الأرض، وأن يكون غير مرئي، انتفض قلبه فرحاً بها لا بعيد ميلاده، وحين أطفأ شمعته كانت تبتسم كطفلة أوقعته بذكاء وحب في أجمل مفاجآت العمر

(2)

لا تصدقي المنجمين حين يقولون إنني لا أستقر على وردةٍ، ولا أطمئن إلا حين تدور بي الريح، سأحمل “الدلو” إلى أقرب نهر وأسد ثقوبه بأصابعي، حتى أصل إلى شجر عينيك، وهناك سأبني لي بيتاً وأجهز شرفة تطل على وجهك.. هكذا أتحرر من سوء الحظ حين أولد على يديكِ، ويكون لي وحدي اسم برجِك

(3)
اعذريني حين أبتلعُ لساني وأصمتُ كالموتى، لأنني سليل ثقافات الخوف والحذر، وكلماتي الصغيرة تهرب من فمي إلى كهوف الجبال البعيدة
اعذريني إذا طاردتك بالأسئلة، لأنني تعلمتُ الإجابات الخطأ، وتلقنت أن المرأة مسكونةٌ بالشياطين والخطيئة. اعذريني لأنني لست حراً لأقول لكِ: “أحبكِ”..
ولستِ حرةً لتنامي كل ليلةٍ على صوتي، اعذريني يا جميلة

(4)
تذكري، هذه وصيتي: عندما تغيبين لظرف طارئ لا تعيدي قلبي إليَّ، ولا تتركي عقارب الساعة تزحف في دمي، أوقفي كل شيء بعدكِ، وتحدثي عني كعاشق ميت ترك قلبه أمانةً بين يديكِ..
تذكري، هذه وصيتي: عندما تشردين مع أغنيةٍ أو فيلم عاطفي، اختاري لي دور البطولة، ومشاهد الحزن العاصفة، لأنني بعدكِ سأكون بطلاً في مأساةٍ طويلة
عندما تغيبين عندما تكونين هناك، وأنا هنا أتنقلُ بحنيني بين الشوارع والمقاهي، سأتركُ في كل مرةٍ وردةً على الطاولة، لتعرف الجرسونة أنني بستاني يطارد عطركِ، ويستدل عليكِ بالصمت.. والورد

(5)
هذه غيمةٌ سقطتْ على حبيبتي، هذه سحابةٌ سوداء فوق رأسها، فكيف أدفعُ عنها الحزنَ بكلمةٍ؟ كيف أكون فارسها والريح تعاندني؟
حصاني يصهل في الخيبة، وسيفي مرهونٌ بقلة الحيلةِ، كيف أبتكر لأجل عينيها الغاية والوسيلة؟
هذه غيمةٌ من ترابٍ.. غيمةٌ من خوفٍ.. غيمةٌ لا شتاء لها، سقطتْ في قلبها، فذهب صوتها، ووقفتْ الغربان على يديّ
تعالي.. لأفتح لكِ الطريقَ إلى النهرِ

تعالي.. لنقطع الشوارع أطفالاً مجانين، ونلقي على الناس البهجة في السرّ
تعالي إلى دمي ليتدفق الوهج من رأسي حتى قدميّ
تعالي إلى البكاء الذي يحررنا من الفقد في الحب، ومن الخوف في الحب، ومن الريح والكوابيس
هذه غيمةٌ فوق رأسكِ.. وأنا في ضعفي، أراقبُ الدمعة الصغيرة في عينيكِ، وأقولُ: كيف تكونُ لي عشر أصابع وكفان ولا أمسح دموعك قبل النوم، كيف أكونُ في ظمأ عظيم إليكِ ولا أشرب الملح تحت أهدابكِ؟
تعالي.. سأحفرُ لكِ في قلبي بحيرة بشاطئين، فقفي فوقها، ابكي مئة يوم حتى تسقط الغيمة وتصفو السماء أغنيةً لكِ وحدكِ
تعالي.. سأشتري منكِ الحزن كلّه، وأتحدثُ إلى شعركِ كصديق قديم، وتنام يدي في حرير يدكِ، فيقولُ الناسُ جُنَّ أوكاد، وأقول: هي أنتِ البهجة التي تحط على قلبي، وجنوني الذي لا يدركه العباد
هذه غيمةٌ فوق رأسكِ فلا تمشي تحتها باكيةً، تذكري كيف كنا نصنع الغيوم حين نشتهي المطر على وجه الزجاج، تذكري كيف كنا نغني “الأماكن” بصوتٍ واحدٍ وابتسامتين، تذكري طفولة اللهو واللعب، والضحكات التي ترج البنايات حولنا، تذكري النهايات التي لم تقتلنا، والحنان النبيل في العينين.
تعالي، لأفرش الياسمين تحت قدميكِ، لأقولَ لكِ: للوردةِ أن تخطو على الوردِ، وللأميرة أرضٌ من بساتين.
تعالي.. لأسرقَ منك المواجع، فتقفزي على الدرج حافيةً، وتغني كالصغيرات أمام المرايا، تعالي نسمي الشوارع بأسمائنا، والمقاهي بأسمائنا، والأحلام بأسمائنا، ونقولُ: مَنْ للوحيدة غير الوحيد؟ من للوحيدِ غير الوحيدة؟
هذه غيمةٌ صغيرة، وأنتِ سماءٌ جميلة، فكيف تبكينَ من سحابةٍ عابرةٍ؟
كيف تغرقين في مطر خفيف؟
كيف يغادركِ الضحكُ، وتهاجر الطيور من شفتيكِ؟
هذه غيمةٌ صغيرة، غيمةٌ لا شتاء لها، فادخلي في البحر، ادخلي في اللحن، ادخلي البيت الذي لنا، واضحكي في السر حين يحاصرك الظلام، خذي الحكمة من قلبكِ، قولي: أنا لحبيبي، فارحل أيها الحزنُ، يا غيمة الخوف والكلام.

(6)
هذه الحياة هي أنتِ.. أنتِ إذا تكلم الناس وصمتوا،وإذا جاء صوت أغنية، وإذا جاءت الموسيقى، وإذا مالت رأسي على نافذة القطار، وإذا شاهدت البحر، وإذا مشيتُ منكس الرأس كعادتي أبحث عن خبيئتي؟
أنتِ إذا أمسكتُ الهاتف، وإذا سمعتُ رنينه، وإذا تابعتُ أعمدة التليفون وهي تهرب في جنون القطار؟
أنتِ إذا تحدث أصدقائي عن المحبة والفقد،وإذا تابعت تسلق الصبية للنخيل، وإذا وقف اليمام على شجر الصفصاف، وإذا كتبتُ، وقرأتُ، وألقيتُ بنفسي في المدينة والزحام.
أقول إذا سألني الناس: ما البحر؟ أنتِ،
وأقول إذا سألني الناس: ما الحب؟ أنتِ،
وإذا سألني الناس: ما اسمكَ؟ أقول اسمكِ.
ها أنا أدخل قلبكِ مثقلاً بالسؤال: كيف أصل إليكِ؟
فهل أصلُ إليكِ؟

(7)
الشعرة الصغيرة التي سقطتْ من رأسها أمام المرآة، استقرتْ باكيةً على سطح الزجاج، حين رأت نفسها وحيدة، تغادر البيت والعائلة.
الشعرةُ الصغيرةُ، ارتعشتْ وهي تطير، من هواء، إلى هواء، بعيداً عن أخواتها النائمات، في العطر والحرير.
ولأن أحداً لم يسمع صوتها، زحفتْ من سطح المرآة، إلى حافة السرير، سبع ساعات وهي تمشي.. وتبكي، كأنما تقطع غابة شاسعة، وهي تتذكر جذورها البعيدة، وهي تستمد في ظمأ، رغوة الشامبو، وطعم الكريمات المغذية.
سبع ساعات وهي تحلم بالنوم، هناك.. في سريرها الذي غادرته، سريرها الذي هدمته بقسوةٍ، أسنان الفرشاة القاتلة.
سبع ساعات وهي تحدث نفسها، وتقول: مَنْ لي غيرك يا جميلة؟

(8)
لم أكن أدرك من قبل أن الموسيقى الهادئة، يمكن أن تورطني في الأرق، حين أتذكر عينيك النائمتين تحت سقف بعيد، حين ينتصف الليل على لحن رومانسي، وأنا أفتش عن رائحتك في يدي.. لم أكن أدرك من قبل أن الحب أكثر إعجازاً من جراحات القلب، لأنني أشعر الآن أننا نعيش بقلب واحد.
لم أكن في حاجة قبل أن أحبك للاعتذار إلى أحد، واليوم حين أخرج إلى الشارع أود أن أحمل فوق رأسي أكبر رسالة أسف عرفها العالم، أود أن أقول: أيها الناس، يا كل الذين مروا بجواري يوماً وأنا أمشي حزيناً، يا كل من عبرت طريقهم متجهماً ولم ألق السلام•• اغفروا لي، لأنني قبل حبيبتي لم أبتسم لأحد، ولم أعتذر لأحد، ولم أكن قبلها أعرف الحب أو الكلام.

(9)
أستطيع أن أفعل أشياء كثيرة بمفردي، كأن أشاهد عشر قنوات فضائية في خمس دقائق، أو أن أفتح الباب لأخرج وحيداً إلى الشارع، وقد أكلم نفسي في الطريق إلى المكتب، وأراقب البناية التي لم تكتمل وأنا أخمنُ لون جبهتها العريضة بعد شهور، ويمكن لي أن أقرأ آخر أحزان “رسول حمزاتوف”، أو أن أقوم بتحميل كتاب جديد بصيغة (PDF)، ثم أرتبُ انطباعاتي الأولى عن برامج رمضان لأجد وقتاً إضافياً لمتابعة الفقرات الإعلانية.
أستطيع أن أفعل ذلك وأكثر بمفردي لكنني حتى الآن لا أستطيع أن أتخيل أن هناك امرأة واحدة تشبه حبيبتي أستطيع أن أحلم أحلاماً كثيرة بمفردي، كأن أصعد شجراً يطير بي من شرفة إلى أخرى، أو أن أتحدث إلى أجدادي الموتى عن المستجدات الراهنة في بيوت العائلة، وكيف احترقت حقول القصب في الصيف الماضي بفعل العفاريت الجائعة إلى الخوف والنار، وقد أحلم أيضاً بالقطارات المعطلة، والأبقار النائمة على مدخل البيت، وباثنين من أبناء أختي يتسلقان كتفي بحثاً عن طفولتي الضائعة، وكثيراً ما راودتني الكوابيس بعد أفلام “الأكشن والرعب”، فأراني أطارد مائة من المخلوقات الفضائية، أقفز.. وأطير خفيفاً.. وأسبح كسمكة مدربة على الهروب والنجاة.
أستطيع أن أحلم بذلك وأكثر بمفردي
لكنني حتى الآن لم أستطع أن أحلم بامرأة أخرى
غير حبيبتي.

(10)
لا تقولي: “علمني القسوة، فقسوت عليه” قولي: “هذا حبيبي، علمني القسوة في الحب، فغفرتُ له، حين تذكرتُ حنان عينيه”.

(11)
انتبهي، لستُ آلة كاتبة مملوءة بالحبر والورق، لأنني حين أكتبُ “أحبك”، أحرقُ ثلاثة لترات من دمي، وحين أسمع صوتك وأكتب “ليس لي غير حبيبتي” يدق قلبي مثل طبول الغابات، وحين تغيبين فأكتب “أحن إلى عينيك”، تقف سيارة الإسعاف على باب بيتي.

(12)
وكان له ما أراد بعد ان أحب امرأة جميلة، كلما اتصل بأمه سألها عن الأخوة والأخوات، عن أحوال الصغار الذين كانوا إذا رأوه تقاطروا خلفه فرحين بالخال، حالمين بالهدايا الصغيرة وقطع النقود المعدنية التي يحلو لهم سماع رنينها في الجيب الوسيع• وبين الوقت والآخر تزف له أمه خبر اقتراب ولادة الأخت أو ابنة العم أو ابنة ابنة العمة أو الخالة، وكان يحسب في غربته على ورق أبيض شهور الحمل لهذه وتلك، ويتصل مطمئناً كأنه كبير عائلة معلقة في رقبته، وكانت الأم تشفق عليه من ثقل الهم والسؤال عن الحوامل في كل بيت من بيوت القرية، وبعد حين سألته الأم: ما شأنك أنت بالحمل والولادة؟ ولم يجبها، غير أنه قال لها إنه سيعطي كل امرأة تلد بنتاً ألفاً من الدراهم، فلما أذاعت الأم خبر ما قاله، تسارعت النساء في الدعاء إلى الله أن ينجبن البنات، فغضب الرجال من ثورة زوجاتهم، وقالوا إن في الأمر سراً وراء هذا الرجل الذي يغدق على منجبات البنات، وتطرف كثيرون منهم، فاقسموا إن مؤامرة كبرى خارجية من القرى المجاورة تستهدف قريتهم وتريد تحويلها إلى قرية نساء وبنات• وظل أمر الرجل لغزاً ، حتى اتصلت أمه ذات ليلة به لتخبره إن أخته الصغيرة أنجبت بنتاً، فقال فرحاً كأنما رزق هو بسبعة تواءم ذكور: (سأرسل لها الهدية شرط أن تطلق على ابنتها اسم جميلة)، وهكذا من امرأة إلى أخرى، مضى الرجل يفرض شرطه العجيب حتى وصل عدد من يحملن اسم جميلة إلى مائة طفلة، وعندما انتشرت الحكاية خارج حدود القرية، أطلق الغرباء عليها اسم قرية (جميلة).
هكذا حقق الرجل العاشق حلمه، فأصبح كلما سأله الأصدقاء
– من أي بلدة أنت؟
– قال: من بلدة جميلة
– أين ستقضي إجازتك؟
– قال: في حدائق جميلة
– أي الأماكن أحب إليك؟
– قال: مكان جميلة.

(13)
اتصل يوماً هاتفياً بمقدمة برنامج (اعترافات عاطفية)، وبعد أن اثني على برنامجها الإذاعي ودوره في إنقاذ العاشقين، سألها أن تسمع اعترافه، وأن ترشده؟ لو استطاعت – إلى حل مريح –
– اطمئن ، فقط قل لنا حكايتك
قال الرجل بصوت حزين: المرأة التي أحبها تعشق قريني
سألت المذيعة: تقصد تحب رجلاً آخر
سارع هو بالنفي: لا لا .. هي تحبني بجنون كما أحبها، لكنها أصبحت مغرمة بقريني
عادت المذيعة إلى حيرتها على الهواء مباشرة: يا سيدي من (قريني) هذا؟
أخذ الرجل نفساً عميقاً، وأطلق تنهيدة وقعت في آذان المستمعين في البيوت وفي سياراتهم المكيفة على الطرقات السريعة كطلقة هواء .. وقال : تعرفين يا سيدتي أن لكل شخص منا قرين يلازمه ، وحبيبتي الآن أصبحت مغرمة بقريني وتقول إنه أكثر حناناً عليها مني.
– كيف ؟ (سألت المذيعة وهي تظن أنها تخاطب مجنوناً) راح الرجل يسهب في الوصف والتحليل حتى تجاوز الدقائق الخمس المسموح بها لكل متصل .
قاطعته المذيعة خوفاً من أية ورطة على الهواء: الحل يا سيدي أن تخيرها بينك وبين قرينك، وعليك ان تحترم اختيارها وقبل أن ينقطع الخط، قال الرجل: الغريب يا سيدتي أنني إذا قلت لها كلاماً جميلاً تظن أنني أتحدث بلسان القرين، وإذا عاتبتها بقسوة يوماً على شيء، ألصقت بي أنا تهمة القسوة .
لم تجد المذيعة حلاً سوى أن تنهي المكالمة، وأن ترشد صاحبنا إلى حل أخير: أنصحك يا سيدي بالنوم الآن، والاتصال غداً ببرنامج آخر، وسوف يقدم لك فيه الزملاء حلاً لمشكلتك
– شكراً، ما اسم البرنامج؟
– اسمه (العيادة النفسية)
– آلوو .. آلووو
انقطع الخط .

(14)
عندما تطفئين الضوء وتنامين، تذكري أنني أوصيت الملاك الحارس بأن يسد طريق الكوابيس إليك، وأن يقف على سريرك حتى الصباح ليطرد الأشباح عن عينيك، تذكري أنني أحبك وأغني خلف صوتك: “كل شي حولي يذكرني بشي، حتى صوتي وضحكتي، لك فيها شي”.

(15)
قررتُ اليوم أن أبعث برسالة اعتذار إليك، سأخاطب كل القنوات الفضائية والإذاعات العاملة على موجة FM، وأسألها أن تساعدني على بث اعتذاري إلى عينيك، لأنني أبكيتهما هذا الصباح قبل أن أقول لهما كم أحبهما كابتسامتين طيبتين على وجه أمي•

(16)
سحب أنفاسه بألم كأنما سحب شوكة كبيرة وحادة من رئتيه، ألقى نظرة من نافذة بيته الصغيرة والمطلة على البحر البعيد، وحاول أن يقدّر المسافة بين قدميه ونعومة الرمل على الشاطئ الذي لا يرى منه سوى شريط رفيع•• تذكرها حين رآها آخر مرة برداء صيفي ملون، تذكر عينيها وهي تسأله:
– لماذا تخاف البحر ليلاً؟
لم يكن يعرف من قبل أن المرأة التي يحبها لا تخاف هذا المدى المظلم والممتد بلا نهاية فوق سطح الماء، أراد أن يسألها بدوره عن زرقة المياه الميتة في جوف البحر، الزرقة المدفونة في أعماق معتمة ليلاً، أراد أن يحدثها عن أصوات الأمواج الهادرة التي تشبه أصوات الحيوانات المنقرضة لحظة هجومها على الفرائس، أراد أن يقول لها إنه يود لو أن هناك قمراً يضيء سطح البحر قليلاً، يود لو أن أعمدة الإنارة ألقت ببعض الضوء على هذا الظلام لينسحب خوفه من ليل البحر وكائناته الخرافية.
سحب نفساً آخر بصعوبة وأغلق النافذة وغادر شقته إلى المقهى الزجاجي، وعلى مقعده راقب النادلة الصغيرة، والمارة، والجالسين فرادى وجماعات، وهرب من مراقبة روحه وقلبه، لم يكن يرغب في مواجهة حقيقته في الحب، الحقيقة التي يخافها ويزداد أمامها وحدة وتوتراً.
تقول له في حنان يذكره بأمه: اطمئن..
فلا يطمئن إلى أحد أو إلى شيء، تتحول أعماقه في لحظة إلى أعماق مظلمة ومخيفة، تماماً كأنها أعماق البحر التي يخافها ليلاً، يهمس دون صوت:
– لم أكن هكذا من قبل..
ويكتشف مع فناجين قهوته “المضبوطة” أنه تغيّر.. وتبدل.. وأن المرأة التي يحبها أوقعته في الضعف، وفتحت عينيه على الحنين والخوف، كانت قوته في صمته، وفي وحدته، وفي الجدران العالية التي يشيدها حوله، كانت قوته في توقع الخسارات وابتكار ألف حيلة لاحتمالها، كانت قوته في البدائل•• وتأويل الهزائم والصبر على الاكتشافات المروعة، لكنه اليوم لم يعد قادراً على التحايل، وهزيمة واحدة صغيرة قد تقوده إلى الهلاك•

(17)
هذا خبز قلبي
أعددته لكِ تحت شجرة البيت
كانت الشمس لي وحدي
والحطب الذي جاءني باكياً
من حقول العائلات الغريبة
فتحت له الأفران بحروف اسمكِ
قلتُ: يا حطب الأشجار اليابسة
أيتها الجذور الحافية..
ادخلي في النار
لأجل خبز حبيبتي
اشتعلي لينضج العجين الشهي
لأجل فم حبيبتي
•••
كانت الشمس لي وحدي
يومَ كانت حبيبتي لي وحدي
وأنا واقف تحت شجرة البيت
أخبزُ رغيف قلبي
والصغار يحملون التراب
على رؤوسهم..
وأنا أسد عليهم الطريق
أقول: لا تفسدوا هديتي
هذه لحبيبتي
•••
استريحي يا أماه
راقبتكِ عشرين عاماً
وأنتِ تجهزين الخبز لأبي وأخوتي
فراقبيني اليوم••
وأنا أجهز الخبز لحبيبتي
وأضيف إليه ماء عيني
بكائي الذي يغرق البيت خلفها
•••
ابتعدي أيتها الكلاب الجائعة
سأحرسُ الخبز تحت الشمس
بالطوب والعصا
سأهشُّ عنها الطيرَ والذئابَ
وأغني كدراويش القرى:
خبز قلبي•• لحبيبتي

(18)
قالت لي جميلة يوم كانت تقول :
يا سيدي•• أنا متواضعة وبسيطة في الحب، لا أريدك أن تُحضر البحر حتى شرفتي، ولا أطمع أن تزين سقف غرفتي بالأقمار والنجوم، لا أحلم بالمستحيل، كأن تفرش الورد تحت قدمي كلما مشيتُ، أو أن تتبعني عازفاً على العود كأولئك العاشقين الذين قرأت عنهم في طفولتي•

يا سيدي•• أنا بسيطة في الحب، ولا غاية لي غيركَ، لا أتطلعُ إلى هدية أو مفاجأة مخبأة في أدراج البيت، لا أود أن تشتري لي الثياب بآخر دراهم في جيبك، ولا أحب من العطور غير رائحتك، ولا أنتظر منك أن تقنع العصافير بالغناء خلف زجاج نافذتي•

يا سيدي•• لا تظن أنني أبكي منك حين أبكي معك، حين تطوقني الدموع كلما نظرت إلى المجهول بيننا، وتخوفت من أقداري بين يديك، لا تظن ولو لمرة واحدة أنني سأدير وجهي عنك، وأبتسم في حياة لست فيها معي•

يا سيدي•• أنا متواضعة في الحب، أضع اسمك على طرف لساني، وأقول “أحبكَ”، أمشي بين الناس وأقول “أحبكَ”، وتتورد وجنتاي أمام عينيك، فيمنعني الحياء أن أقول “أحبكَ”، فلا تصدق أنني أبحث لك عن ذنب في الحب لأقتلكَ، ولا تصدق أنني أجمع لك الخطايا لأغلق كتابك وأستريح، كل ما سواكَ قبض ريح، وكل الحياة تأخذني إليكَ، فلا تقتلني بالصمتِ، لا تتركني أشد شعري خلفكَ، وأضع التراب على رأسي، وأجهز روحي للموت•

يا سيدي.. أنا بسيطة ومتواضعة في الحب، لا أريدكَ أن تأتيني على ظهر حصان، وأن تقام الأفراح في عرسنا ألف ليلة وليلة، وأن تملأ بيت أبي بالجواهر والحرير•
أنا يا سيدي امرأة تحب، أنا امرأة تكلم ضفيرتها بالفرح والوعد، وترتب في سرها ملايين المؤامرات الجميلة لتصل إليك!

قل لي يا سيدي كيف أركض كطفلةٍ خلف اسمك؟
كيف أطمئن لأعبر الجسر مغمضة العينين إليك؟!
أنا امرأة قررت أن تكون لك
فهل كثير أن تكون لي..؟

قالت لي جميلة يوم كانت تقول:
كالنهر أتدفق في دمك وتجري في دمي، كالنهر الذي لم يعبره بشر، ولم تمسسه يد، مائي يصفو إذ تشربه، وضفافي لا تنشد غيركَ، وإذا وقعتْ على زرقتي عينُ غريبٍ، كنتُ عاصفةَ غضبٍ، وموجاتي طوفانٌ لا ينجو منه أحد، فنم تحت عيني، سأحشدُ لأجلكَ مواسمي، وأحفظ ثمار قلبي لسيد قلبي.

قالت لي جميلة يوم كانت تقول :
لا تفكر كثيراً حين ترقب اسمي في بطاقة الهوية، تجاهل اسم الأب والأم وفصيلة الدم ومحل الميلاد، تجاهل الأوراق الرسمية التي أقدمها إلى دوائر العمل والجوازات والتأمين، تجاهل صديقاتي القديمات حين يبحثن في دليل الهاتف عن اسمي الثلاثي.. فأنا لا أنتمي إلا إليكَ.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

تصبح على خير.. أحلاماً جميلة

المقالة التالية

جامع الضحكات

اخر المقالات من تأويل جميلة

في البدء كانت جميلة

في البدء كانت الكلمة، ربما، لكنني أظن أنه في البدء كانت النظرة، وكانت جميلة، كأن ترى

اعتذار الفراشة

أحط بين يديك يا جميلة، لأعتذر عن حماقة صاحبي، جناحاي معطلان، جناحاي ثقيلان بالذنب حتى ترضين،

صائد التفاصيل

  الجحيم في التفاصيل، ربما.. وأولئك الذين يعيشون بذاكرتهم البصرية قد يكونون في لحظة ما أتعس

ليست مجرد امرأة

– اكتب، قل شيئاً، أي شيء، أكمل روايتك اليتيمة، لا تترك رقبتي هكذا دون جوهرة تليق