محمود درويش على الضفة الأخرى

أين ذهبتَ ياسيدي؟ في أي بيت ستنام الليلة؟ ومن سيعد لكَ العشاء في الضفة الأخرى؟هل تعبت من الوجع الخفيف في الحب، واكتفيتَ من الأرضِ بحفنة من التراب.
هاهو التراب يجيء إليكَ ليستريح تحت أظافرك، فافتح له باب المقبرة، جهز لكل ذرة مقعداً ومائدة، صافح القدس والرملة والناصرة، قل مرحباً لغزة والخليل وبيت لحم وأريحا
وابتسم لنابلس ورام الله، واسأل جنين عن حزنها.
هاهو التراب يجيء إليكَ، من عكا ويافا واللد وبيسان، ومن بئر سبع وطولكرم وطبريا.
فاكتمل في حفلك الأخير، قل لزوارك أن يجلسوا هادئين، وغني لهم، غني في مديح الوطن، عن التراب الذي يفك الحصار لينام بين يديك، افتح عينيك لترى، لا تخف من العتمة والغبار، كل شيء هنا يدل عليكَ.
افتح عينيكَ، هذا التراب تعرفهُ، والرائحة تعرفكَ، والعابرون أمام المقبرة يلقون السلام على اسمك الأخير. افتح عينيك على البياض، واكتب عن الحرية والنصر، والحمام الذي يطير فوق زيتونة قلبك، ابتسمْ لكل من يناديك في التراب، وادخل في بيتك، لا تخف لن يسألك الغرباءعن الاسم والسن والهوية.
أين ذهبتَ ياسيدي؟ ولماذا أغمضتَ عينيكَ في أرضٍ غريبة؟
لماذا لم تقل: لا
حين أوصى الأطباء بتفتيش قلبك
آخر الليل
فوجدوا وطناً وأغنية

وخيطاً طويلاً من الحب والحزن
لماذا لم تقل: لا
حين اقتحموا عليك قلبك؟
ولماذا ياسيدي لم تعطهم كلمة السر؟ لماذا لم تتحصن بقهوة أمكَ، وخبز أمكَ، وسبع حبات من الزيتون؟ كيفَ – وأنت الذكي- تثقُ في البياضِ والمخدر، ولا تثقُ في القصيدة؟
أين ذهبتَ ياسيدي؟
الحصان الذي تركته وحيداً، سيبقى بعدكَ وحيداً، يضرب الريح بساقيه، ويبكي
والغريبة على سريرها، ستبقى بعدكَ، تشد شعرها على سريرها، وتبكي، وخلفك أحد عشر كوكباً، تهرب من القذائف والحصار، وتبكي
استرح أيها الدرويش من الحبر والورق والأسئلة
استرحْ من جنود المعابر والطرقات
استرحْ من موت العصافير على أزيز الطائرات والمدافع
استرحْ من البكاء أمام البحر، يوم كان يسألك البحرُ
عن الموت في الحب
عن الأرض.. والوطن.. والعائلة
تلكَ هي المسألة
ذهبتَ إلى الموت وحيداً لتقيم حفلك الأخير
تلك هي المسألة
ورطتنا في الحب
ورطتنا في السؤال البعيد
علقت أرواحنا في شجر الكلام
أعطيتنا سر قلبكَ
وحين مشينا خلفك اختفيتْ
أين ذهبتَ ياسيدي؟ في أي بيت ستنامُ الليلة؟
ومن سيعد لك العشاءَ في الضفة الأخرى؟ من سيطلعك على آخر الأنباء، ويقترحُ عليكَ فنجاناً من القهوة؟ من سيقول لكَ: صباح الخير، ويذكركَ بموعد الدواء؟ من سيحبكَ مثلنا هناكَ، لتتركنا على الضفة المقابلة؟
آه
 أيها الدرويش العنيد
كيف علمتنا في موتكَ
أن نحبك من جديد؟



اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Default thumbnail
المقالة السابقة

أسئلة الارتبـاك الـطـفولـي والإنسـانـي

المقالة التالية

( لا يدخل الليل وحيداً ) وليس ( إلا وحيداً )

اخر المقالات من سيرة الحنين والفوضى

THE VOICE OF ENIGMA

بالأمس قررت أن أكون وحيداً مع صوت “إنيجما”، قررت أن أكون مخلصاً لها لمرة واحدة، وفي