ما لا تعرفه حنين



قالت التي أحبها:
ربما تكون رسالتي الأخيرة
انتبه، سأضع عينيك حجرين على الإسفلت، سأتركهما – هكذا – عاريين أسفل الريح والمطر، وأقول للحفاةِ اعبروا فوقهما، لأنهما مدببان كخنجر تاريخي مسموم، هما عيناك الآن حجران ملقيان بلا رحمة، والأقدام الكبيرة تقذفهما من حائط لحائط.
قالت التي أحبها:
ربما تكون رسالتي الأخيرة
انتبه، هذه ( ربما ) حرف جر للتقليل لحقته ( ما ) وكفته عن العمل، تماماً كما أريدك أن تكف عن الحياة، أن تكف عن محبتي، وألا تمسك بأطراف ثوبي وأنا هاربة من شياطينك، أنتَ تضل بلا هداية، ثم تلوذ برحمتي، وأنا مسكونة بالقلق والسؤال، مَنْ يرحم مَنْ؟


قالت التي أحبها:
ربما تكون رسالتي الأخيرة
انتبه، شد الغطاءَ على قدميكَ آخر الليلِ، أطفئ الضوء في الممر الصغير، ضع كوباً من الماء بجوار سريركَ، أعرفكَ حين يداهمك الظمأ في منتصف الكوابيس، خُذْ ما يكفي من إفطارك المنسي، ولا تدخن على معدةٍ خاوية، واسأل ( الناطور) عن السخان المعطل، وحين تكون وحيداً تبحث عن رائحتي، تذكر كيف أهديتني عطراً باريسياً دون مناسبة، وكيف أهديتكَ الحب دون مقابل
قالت التي أحبها:
ربما تكون رسالتي الأخيرة
انتبه، أنتَ في دمي كما في دمك وجهي واسمي، كما في دمك هذا البكاء المزمن على الموتى والغائبين، كما في روحك ما أتعبني من الضلال والعبث، كما في روحي الصغيرة هذا الضعف والعناد، كما بيننا هذه المحبة الجارحة، فمَنْ يرحم مَنْ؟
ربما تكون رسالتي الأخيرة
أعرفُ أنك لن ترى دموعي حين يداهمني الحنين إلى بيتنا، ولن أرى دموعك لحظة تقلب في أوراقنا، وتستعيد صوت البحر والقطار، أعرف أنكَ ستدخل مساء الفندق مثلما يدخل الموتى قبورهم، وحيداً في الزحام، تنام الحسرة في قلبكَ، وأنا في عينيكَ آخر ما رأيتَ، آخر ما أحببتَ، آخر ما عرفتَ من الفرح والبشارة.ربما تكون رسالتي الأخيرة
قتلتني دون قصدٍ، وأقتلكَ دون قصدٍ، واحدةً بواحدةٍ، وكلانا ينشد البراءة والمسرة، سأتهمكَ بما فيكَ وليس فيكَ، وتتهمني بما عندي وليس عندي، سيشد كل منا الحبل على صاحبه، ونصرخ في القطيعة: ” الحب.. الموت “، ونفتش في أكفاننا البيضاء عن نسبة القدر والاختيار.
ربما تكون رسالتي الأخيرة
ربما تورطني البلاغة في القسوة كما كنت تهذي آخر الليل، ربما ترتبك كالصغار أمام موقد الغاز يوماً، وتكتفي بالوجبات الجاهزة، ربما يخفق قلبك كبركان صغير فلا تعرف على أي جهةٍ تنام، ربما تحرق رئتيك بالتبغ وتغفو قليلاً على مقعدك فيسقط من يديك كتاب نيتشه ” هذا هو الإنسان “، ربما تتابع الأغنية الراقصة بشغف.
ربما
لكنني أعدكَ – إن مِتَّ – بالفاتحة وقطعتين من الخبز على روحك، وبراءة كاذبة أمام سؤال ” حنين”
ربما تكون هذه رسالتها الأخيرة
لكنني – أنا المخاطب بالفقدِ – أقف على بوابات الدخولِ رهن المصادفات، أضع قلبي على خشب الباب، أسترق السمع كأولئك الدراويش العجائز، أجهز الطعام لاثنين، وأتحاشى أن أموتَ دون وصية أو عزاء، دون أن أسألكِ: هل أعجبكِ العشاء؟

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Default thumbnail
المقالة السابقة

تمام الجحيم

Default thumbnail
المقالة التالية

الليل الذي لا نحبه

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم

أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت