ما قاله الظل ولم أسمعه

حدثني الظل فقال: ستعبر هذا الطريق وحيداً وإن ازدحم قلبك بمن تحب، ستمضي مثقلاً بما كسبت وبما خسرت، تتقاذفك الأمواج بحاراً أعمى ترك عينيه وديعة لدى عرافة خرساء أشارت بإصبعها تجاه البحر، وها أنت لا تعود ولا تصل وما اكتفيت، تسأل الريح التي تجيئك من الشمال عن التي ستجيئك من اليمين، فلا احتطت لهذه ولا تلك، تزرع الماء وتحرث الماء وتسكن الماء، لكنك لا صرت حوتاً ولا صرت ثعبان بحر، ولا عرفت كيف تريحني منك.
حدثني الظل فقال: تبعتك حتى عرفتك، حتى أحببتك وكرهتك وضقت بك، وتمنيت لو أنني ظل حائط أوقطار، أنا ظلك شقيت معك منذ خرجت من بيتك ووقعت الشمس عليك فصرت بجوارك مائلاً ومنكسراً وموازياً لخطاك وخطاياك، تجري فأجري، تقف فأقف، وتجلس فلا أغيب عنك إلا حين تغيب الشمس ويذهب الضوء.
حدثني الظل فقال: لو أنني أقدر على قتلك لشربت من دمك بقدر ما ظمئت خلفك في الحب، وأنت تتعثر وتفتح قلبك على برد الشتاء، وتستدفئ بالذكريات، لا تنزل عن ظهر جوادك الضرير، تشد اللجام أو تتركه، إلى أين يأخذك الذي لا يرى؟
حدثني الظل فقال: كم مرة وقعت من طولك فأوقعتني معك حين خانك الحظ وما تعلمت الحكمة، خطاياك مع النساء واحدة، وجروحك كثيرة: تكثر أوجاعهم الذين أسرعوا وراء آخر، أنت تغرق في شبر ماء وتغرقني معك، تجر عربتك المذهبة حالماً كأنما كل الطرق ممهدة لك وحدك، بدلت ثيابك القروية وما بدلت روحك، ما زلت تحسب كل شيء أحمر صندوق بريد، وكل ضحكة طيبة، وكل عطر مدخل البساتين، فأشقيت نفسك وأشقيتني.
حدثني الظل فقال: يا قرين الخيبات أغلق الأبواب المواربة على ما فات ،لا تدع راحلاً أو راحلة يشدك إليه، لا تطلق أسئلة محيرة تسرق النوم من عينيك، لا تفسر ما لا يفسر إلا بالموت، كن الذي يبتهج بأغنية، بالهدايا، بوردة صباح مجهولة، ببطاقة لا اسم فيها، بطائر يحط على حاجز النافذة وينقر الزجاج، ابتهج بما عشت، ولا تبك على ما سقط من بين عينيك .
حدثني الظل فقال: كم بقى لي من الوقت معك ؟ كم ثانية ، دقيقة ، ساعة ، يوماً، سنة ؟ كم من العمر سأحبك وأكرهك؟ كم ضوءاً سيأتي بي إليك ؟ وحين تذهب إلى أين أذهب ؟ أين أكون حين تكون بلا حاجة إلى ؟ أنا دونك افترض، احتمال فكرة لا تكتمل إلا بك أسفل الضوء، فلا تطلق ساقيك خلف العتمة.
حدثتني فقلت: أتعبتني يا صديقي، تعرف أود أحيانا أن أضحك عليك، أن أغدر بك، وأن أكون معك ولو مرة واحدة نذلاً، فأغريك بالذهاب إلى شاطئ بحر عميق ومجهول، وأن أحبذ لك فكرة عناق موجة زرقاء شاهقة تأخذك فلا تعود أبداً، وأرجع دونك محرراً من صداقتك القديمة.
أتعبتني يا صديقي بالقلق الذي يأكلنا، بالفقد الذي يقتلنا، وبالأسئلة التي تجرنا معاً إلى أرق الليالي الثقيلة، أرهقتني وأنت تقودني كل لحظة إلى صورك في زمن القرى والمدن الصغيرة، لماذا تأخذني من ياقة قميصي فأتبعك إلى خطاك الأولى، وخطاياك الأولى، ومقاعد مدارسك الأولى، ورائحة الماء والتراب، وملمس العشب في الحقول، الليل فوق سطح البيت القديم، نباح الكلاب على أول الشارع حين يدخله الغرباء، يقظة الجد العجوز مع أذان الفجر، وصياح الديك الذي أفلت غير مرة من فم الثعلب.
أربعون عاماً وأنت تهذي..
وأنت تبحر في ماء عيني، فلا أرى إلا ما تريد أن ترى
آه أيها الطفل الذي يسبح في دمي، تود أن تمسك بالحنين فلا تتركه إلا وأنا ضعيف وهش كمريض لا ينجو، تشعل أصابعي في البحث عن ورقة بيضاء لأكتب عن أختنا التي رحلت في جمعة حزينة، أفشل فألوذ بكلمات (ويليس بارنستون):
أختي العزيزة
” دعينا نستأجر جيشاً من الموسيقيين لنحارب الليل، ونجد رساماًا مكسيكاً ماهراً يلون جدارية الأزرق من جديد، أنت طفلة وكلبك ينبح بين كاحليك، إنى أهاتفك وأترك لك الرسائل، وأسأل ليل الخفافيش والضباب الأزرق أن ينتهي على خير، وأن تستحم روحك القلقة بالضياء من جديد. ”
حدثتني فقلت :أتعبتني يا صديقي..
دعني أدربك على الرحيل، دعني أصف لك الطريق إلى جبل بعيد لتسكن فيه واليه، سيطمئن كلانا، ستحرر قلبك أيها الصغير من جنوني، وسأفلت من أظافرك، سأضع في كهفك الذي تختار، ما شئت من الألعاب والدمى والكراسات الملونة والأقلام والطباشير، وأعطيك خريطة آمنة إلى البحر القريب، اذهب إليه لو شكوت الوحدة والصمت، عش هنا أو هناك، واخرج من دمي، أيها المتبوع بالفقد والحنين، لم أعد بيتك المريح، لا تخف لن تموت بدوني لكنني أموت معك كل مساء، هذه طفولتك، خذها وحدك..واسترح.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

الليل الذي لا نحبه

المقالة التالية

قهوة الصباح المرّ

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم

أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت