– ما الذي بيننا ؟
– بيننا الضوء الذي نضحك فيه على الريح، والأشباح، والفتنة النائمة.. الفقر والستر، والقطارات، وآخر ما قاله الجنوبي عن الحقيقة، والأوجه الغائبة.. بيننا الأرض والنهر، والخليج، والعشب الذي لا يستعيض بالرمل عن الماء. بيننا المقهى والشارع والناصية والمحبة العمياء .. بيننا أبوظبي- القاهرة – سوهاج، والبستان الذي أغلقته السلطات يوماً بلا ذنب، وصديقنا الذي كتب قصيدة واحدة.. ومات. بيننا البكاء على من لا يغيبون إلا بالسرطان والحمى، والأمهات اللاتي يقرأن التعاويذ قبل النوم، والإخوة الذين نرتب أحوالهم بالحيلة والدعاء
بيننا يا ياسر هذا الهواء، الرئة السوداء، الأنفاس المقطوعة خلف لقمة العيش، السؤال عن نسبة الرتابة في الحب والموت، وما رواه لسان العرب بلا سندٍ، عن مجد الصعاليك والشعراء
بيننا ما قالته العجائز حول مواقد الخبز والشتاء، ما روته الجدات الوحيدات عن مهابة الأجداد في الفقر والثأر، وخطواتهم المباركة آخر الليل، حيواناتهم الأليفة في حظائر الذرة والقمح، والريح الشمالية المسكونة بالجن والحوريات
بيننا الفأس والمنجل، دروس العوم الفاشلة في المياه القديمة، شجر الليمون العابر بصمت بين بيت وبيت، أكواب الشاي الثقيل المجهز قبل الضيف بعام، والحلوى التي لم نعرف طعمها قبل الأعياد
بيننا يا ياسر ما لا يُعاد.. القرى، المدن، شهادة الميلاد، محل الإقامة، محل البهجة والخيبة، ما عرفناه وخسرناه، ما اقتسمناه من المال والوقت، وما خطونا خلفه من الوهم والأكاذيب والجنيات.. بيننا ما قلته لك يوماً عن الآباء المتبوعين بالنار والهذيان: أدونيس، أنسي الحاج، الماغوط، ودموعه المعتقة خلف الوطن والأحفاد. بيننا ما قلته لي يوماً عن الآباء المتبوعين بالشياطين والموسيقى: الجنوبي، الأخضر بن يوسف، السياب، والقاسم الذي يهبط بظله على جهة من الشعر
بيننا هذا الإيقاع الشهي، النثر المكشوف على النوافذ، والمكائد، والأبواب التي نخمن مفاتيحها في الصمت والريبة، الجنون الذي يحسبه الآخرون مبرراً لتناول القهوة والمهدئات، الهذيان الذي يجر أعناقنا كالعبيد، فنجرح أول الشعر بأول الخوف والموت.. بيننا ثقل العائلة، ما تكلمنا فيه ليلة خلت المدن من البهجة، ونام السائقون مبكراً، لأن القرويين لا يطيقون النوم إلا بسؤالٍ عن المبتدأ..، والخبر، والنهايات. بيننا ما لم يعرفه صائدو الحكايات
أشعل لي سيجارة لأن يدي مسروقتان في العتمة، خذ نفساً عميقاً حتى آخر رئتيك، لأن رئتيّ مغلقتان لأجل غير مسمى، دخن لي ولك سيجارة في كل مرةٍ، لأن فمي في إجازة سنوية طارئة .. لم يبق لي سوى عينين في رأسي وجسدي من زجاج ؟
ما الذي بيننا غير هذا الكلام؟
بيننا الضوء الذي يلقي علينا كل هذا السلام
بيننا يا ياسر.. هذه الحياة هذه المحبة
بيننا الياءُ.. والكافْ
وما شُبِّه لهم أنه القطيعة والجفاف