كلنا قابلون للاستبدال في الحب والعمل قالها (سكاغ) بحسرة وهو يداري دموعه، محاطاً بأبنائه في غرفة جماعية لمرضى الجلطات الدماغية. لم يكن (سكاغ) سوى بطل فيلم السهرة الذي أجبرني على النوم في السادسة صباحاً: رئيس عمال في مصنع فولاذ، عاش حياته غارقاً في عمله كأنه ثور ريفي مغمض العينين، يدور بلا نهاية في ساقية المهمة اليومية التي تمده بالزهو والعافية، إنه يصنع الفولاذ، شهوته ومتعته الأبدية هي أن يدفع عماله إلى إنجاز المهام في أسرع وقت، قدراته وخبراته التي تراكمت على مدى ثلاثين عاماً، تجعله قادراً على الاستغناء عن تقارير المعمل لتحديد جودة الفولاذ المصنوع تحت إشرافه.
سكاغ هذا رجل فولاذي، تستند على ظهره عائلة كبيرة، أربعة أبناء وزوجة لا يزال جمالها نضراً، لم يكن يظن يوماً أنه سيقع من طوله عاجزاً، يدخل في بادئ الأمر إلى الطبيب ثم يتردد قليلاً، إنه لا يملك الوقت ولا الرفاهية ليكون مريضاً نائماً على سرير أبيض، في أعماقه يشعر أنه حصان يجر عربة البيت والعائلة، وأحصنة الجر يجب ألا تمرض، ويجب أن تبقى دائماً مطوقة من رقابها بحبال المسؤولية• يسقط (سكاغ) من طوله. يصاب بجلطة دماغية تفقده توازنه وقدرته على الكلام والحركة، يجد نفسه واحداً من المرضى العاجزين، لكن كيف يكون عاجزاً صانع الفولاذ؟ كيف لا يقدر على تحريك لسانه إلا قليلاً؟ كيف تخونه يده وقدمه اليمنى؟ من يجر بعده عربة البيت والعائلة؟ يلتقط أطراف الحديث المتلعثم من رفقاء الغرفة المصابين بجلطات العجز.. جميعهم من العمال البسطاء في أماكن عمل مختلفة، جميعهم أحصنة جر، خذلتهم الحياة، وخذلهم الحظ، وأتى بهم المرض إلى الوحدة والضعف والإهمال. – منذ متى وأنت هنا؟ – منذ عامين؟ يسأل سكاغ أحد المرضى، وحين يعرف أنه ملقى هنا منذ عامين، ينتفض ذعراً، كان يظن أنه سيتعافى خلال أيام، وهاهو يكتشف أن أحدهم ممن يشبهونه في المرض أصبح بلا أمل في النجاة. – لم أر أحداً يزورك؟ يسأله (سكاغ) وهو يتحسس في أعماقه خوفه العظيم من أن يصبح مثله. يجيبه المريض الحزين: لم يعد أحد يهتم بي، زوجتي لا تحتمل بطء كلامي، لا تملك الصبر على انتظار جملتي، دائماً ما تكمل الجملة نيابة عني، ودائماً ما تخطئ في توقعاتها. يضحكان، فيما تلمع في عيني (سكاغ) المرارة والفزع، لا يريد صاحبنا أن يصبح مثل رفيق الغرفة، ويرفض أن تراه زوجته وأبناؤه وهو يتلعثم بالكلام كطفل صغير، يتأسف للممرضة حين يسيل لعابه، يشعر أن رجولته وزهوه ووظيفته في خطر. يزحف بصعوبة إلى دورة المياه، لأنه لا يريد أن يفعلها على السرير كغيره من المرضى، يضاعف تمارين اللياقة والعلاج الطبيعي، يعاند الأطباء، ويقرر في داخله ألا يموت كذبابة عاجزة على حائط مهمل. – لماذا؟ صرخته الأولى التي قالها حين أقعده المرض، وهاهو ينجو من عجزه متحدياً كل من حوله، يعود إلى بيته على عكازين، وحين يفشل في علاقته مع زوجته، يهمس: لو لم أستعد قدرتي.. سوف تهجرني. يتحول العالم من حوله.. الخوف يصبح قرين خطواته.. صراعه مع الحياة مأساة إغريقية موغلة في السواد والأسئلة.. سنوات عمره تتكشف له عن أوهام عظيمة.. يقول لابنه الكبير: كلنا قابلون للاستبدال، في العمل والحب، ربما أترك كل هذا، ربما أهرب بعيداً، أتسكع على الشواطئ بحثاً عن الأشياء في الرمال. ولأنه يتمسك بآخر طرف في خيط الأمل والتحدي، دون أن يعرف سبب كل هذه الاختبارات المؤلمة، يذهب إلى عمله طالباً العودة إلى وظيفته، رئيساً للعمال، لكن الإدارة تواجهه بعجزه، وتطالبه أن يرضى بوظيفة مكتبية بعيداً عن صعوبة وخطورة العمل أمام الأفران، فيصرخ رافضاً، لكن مدير المصنع يلقي بين يديه بكرة من اللهب، يقول له: عليك أن تعلم، حين تتعطل آلة عن العمل يجب استبدالها، وحين يتعطل عامل عن العمل يجب استبداله أيضاً، تلك هي القاعدة. (سكاغ) الذي قاوم عجزه، ورفض أن يكون حيواناً مدفوناً حياً في جسده، يواجه ثانية قاعدة لا حيلة له فيها، يواجه اختبارات أقسى أمام شتات العائلة، وأنانية الأبناء، هؤلاء الذين اعتادوا أن يروه حصان جر، هؤلاء الذين اعتادوا أن يكون سند البيت، وتوهموا طوال سنوات العمر، أن الأب ليس سوى قطعة جدار لا يجوز لها أن تمرض، ولا يحق لها أن تطلب يوماً الهروب بعيداً، ولو وراء حلم طفولي ساذج: التسكع على الشواطئ بحثاً عن الأشياء.. أي أشياء.