ليلة مع .. زوربا اليوناني

/
أغلق الهاتف، والنافذة، والباب، وأبتسم ابتسامة منتصر، وأنا أقول إن حزناً جديداً هذه الليلة لن يجد طريقه إلى، أجلس في هدوء الواثق متخيلاً الحزن في محنته العظيمة، وهو يلف ويدور حول البيت، يتسلق الجدران، ويتلصص ربما من مسافة صغيرة بين طرفي الستارة، ولعله يضع أذنه الكبيرة على زجاج النافذة ليسمع شيئاً يرضى غروره، لا يهم الآن ما يفعله بنفسه، عليه أن يتعلم أن يكون ضيفاً خفيفاً، وألا يطاردني كصديق طفولة لم يعد يأويه سواى.
– افتح الباب
يأتيني صوته خفيضاً ومسالماً فيقع في قلبي موقع الرأفة والضعف، أهز رأسي وأنا أبعد خاطر الاستسلام، أقول لنفسي محفزاً ( لم يوردك المهالك غير قلبك الضعيف)، أطمئن لهذا التأنيب الداخلي، وأواصل تجاهل الملقى في الخارج، أتحرك في الغرفة من دون أن أرفع العين باتجاه الصوت الذي لا يتوقف، ويزداد رقة وخشوعاً..
لن أضايقك، أعدك، افتح الباب.. أرجوك –

ألوذ بما تبقى لدي من صبر عليه، أكتم غيظي حتى لا يجرني إلى غضب أنا في غنى عنه، أرفع صوت الموسيقى لتغطي على صوته. يأخذني ( ديوان نيتشه) إلى عوالم أخرى : ( إيه روحي، لا تكوني محبطة بسبب الإنسان، بل واصلي التغذي من كل صنوف أذيته، من كل غرائبيته، من كل مفزع فيه).
أضبط نفسي على عتبة حزن قادم من كلمات نيتشه، خائفاً من ثقل الحكمة العميقة في كلماته، أغلق ديوانه حتى لا يتحالف مع الحزن المطرود عن بيتي.
ولكن أين ذهب؟
اسأل بعد دقائق من الصمت لم أسمع فيها رجاء منه، حتى الحزن يمكن أن يحل به اليأس، جميل هذا، أتنفس راضياً، وأحمد الله على غيابه، ولكي لا تأخذني به شفقة أقول :ربما وجد من يأويه الليلة.
أجهز ما أحتاجه للسهر وحيداً، لن أحفر في ذاكرتي بحثاً عن شيء، لن أفتش في أوراقي القديمة عن عزاء أو فرح غائب، سأترك كل البضاعة الفاسدة بعيداً، سأتخلص من كل ما اشتريته وحسبته أصيلاً، الخفة هي ما أحتاجه لأرقص مثل زوربا اليوناني، خفة الروح والقلب، خفة الحكيم حين يقلب بصره في الكون فلا يسلبه الأسى انسانيته، زوربا الحر، الشجاع، المنطلق، الراقص على جثة المسبق والجاهز، زروبا المصنوع من جنون كزانتزاكس القائل: ( يحتاج الإنسان إلى قليل من الجنون كي يجرأ على كسر قيوده ليكون حراً).
أستبدل موسيقى الجاز بلحن رقصة أنطوني كوين في ( زوربا)، وأبدأ رقصتي، أطوع جسدي مع إيقاع اللحن، آه ما أجملك أيتها الخفة، أفرد ذراعي وأتمايل، اهتزازة بعد أخرى، وأنا أقاوم البكاء، كم سنة من الرقص أحتاجها لأكون قادراً على الطيران أبعد من ذاكرتي؟
– أتوقف مذعوراً على صوت وسؤال: ماذا تفعل؟
كنت قد نسيت أمر الحزن الذي أبعدته عن ليلتي، وطردته بلا رحمة إلى الشارع، استدرت باتجاه الصوت، فإذا بالمطرود ينظر من خلف زجاج النافذة مبتسماً، المسافة الصغيرة بين طرفي الستارة كشفت عن عين واحدة من عينيه، بدا لي خبيثاً ومتطفلاً أكثر مما كنت أعرفه، أقفز لأحكم إغلاق الستارة، فأسمعه يعتذر، طالباً السماح له بالدخول لدقائق قليلة، وتحت تأثير الخجل الذي شعرت به أمامه، فتحت النافذة فاستقر الحزن كاملاً، وفي ثوان على مقعد يتوسط الغرفة.
– سألته : ماذا تريد؟
– سألني بحذر : ماذا كنت تفعل؟
رمقته بنظرة وأنا أقول : كنت أرقص، هل لديك اعتراض؟
– لا .. ليس لدي اعتراض، ولكن لماذا؟
– لست في حاجة إلى سبب لأرقص
– الناس تحتاج إلى أسباب سواء للفرح أو الحزن
– لماذا لا تتركني وتذهب إلى من لديهم أسبابك
– وأنت؟
– أنا؟
– نعم أنت ، أليست لديك أسباب تكفي للإقامة معك؟
– لدي أسباب كثيرة تكفي لطردك
– قل لي سبباً واحداً مقنعاً، وسوف أتركك من دون عتاب
– الحقيقة!
– نعم.. ماذا تقول!
– الحقيقة التي تعلمتها، أنت ترى خسائري، وتحسب قدر الخذلان الذي عرفته، هذه طريقتك دائماً، تجعل الأسود لوناً ثقيلاً ومغلقاً، لا تترك فرصة لدرجة أخف قليلاً، لكنني أكتشفت الحقيقة، وهي التي جعلتني أرقص كما رأيتني.
– لا أفهمك
– لن تفهم إلا إذا احترقت بالنار، وخرجت من رمادك مبتسماً.
– لا تكذب على نفسك، لم يمتلك الحقيقة أي أحد قبلك، ولن يمتلكها أي أحد بعدك.
– لم أقل أمتلكها، قلت تعلمتها، وأنت تعرف أنني دفعت ثمن ذلك غالياً
– تبيعني إذن بعد كل هذه السنوات.
-أنت تعرف أيضاً أنني لا أبيعك، ولم أبع أحداً قبلك، أنا اشتريت بضاعة فاسدة، وحان الوقت لأتخلص منها.
– ستحتاجني، لن تكون حراً أبداً
– ربما لن أكون حراً، لكنني لن أتوقف عن الرغبة في أكون حراً
– سجونك كثيرة
– أنت أولها، فاذهب..
تحرك ببطء كعادته، ثقيل في حضوره، وثقيل في خطواته، اقترب من الباب ثم أدار وجهه إلى حيث أقف مترقباً، في عينيه لمعان غريب، حسرة على فقدان صديق قديم، للحظة خشيت أن أضعف واستبقيه، للحظة وددت أن يسرد أمامي عشرات الأسباب التي تجعلني أعيده إلى مقعده بجواري، نكست رأسي، وأنا أسأل: ماذا أفعل الآن؟


اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

الرمل

Default thumbnail
المقالة التالية

يصنع عالماً من الأسرار الصغيرة

اخر المقالات من الأحزان الكاملة

ميتات الشاعر

   (1) في كل ليلةٍ يقتل الشاعر حبيبته، يجرها من شعرها ويعلقها على الجدار باكية، ثم

مطر خفيف على زجاج

(1) مطر خفيف على زجاج الأصابع.هي عشر جنازات في يمينه ويسراه، عشر جنازات يصافح بها الناس،

غابةُ الأنثى

     قالت الأفعى لصغارها: رداؤكم النعومة وأنيابكم الموت، لا تثقوا بغير طعم السم، وبدلوا الجلد