هل جرّبت مرة أن تجمع أوراقاً قديمة وتطويها، ثم تدفنها في عتمة الأدراج، وتطلق تنهيدة طويلة مستريحاً لجنازة صامتة وسرية قمت بها بمفردك، مطمئناً بعدها أن ما عشته في سطور الرسائل، صار الآن مقبوراً في رائحة الخشب؟
هل قررت يوماً أن تنهي علاقة ما، وأن تفصل بينها وبينك بمسافات هائلة من النسيان، فتمسك في ثورة الغضب والقرار بكل الهدايا والورود المجفّفة وتشعل فيها النار، وأنت واقفٌ ومأخوذٌ تسأل أمام اللهب والدخان: هل أخطأتُ حين قررتُ عمداً إشعال هذا الحريق؟
هل فكرت لحظة في ارتكاب جريمة مدبّرة بعناية، فقمت تحت وطأة الذكرى والمرارة باقتطاع بعض السنوات من عمرك ونفيها خلف الوعي والإدراك، هارباً من وجوه قديمة اكتستْ بابتسامات صفراء، وراغباً في تنظيف ذاكرتك من أكاذيب كبرتْ حولكَ حتى قاربتْ الحقيقة، فإذا بكَ حتى تنجو لا تكتفي بنفي الآخرين، فتقتطعهم وسنواتك معهم.. وتغلق الباب كأنك اليوم مثل ما كنت قبل أن تراهم؟
هل وقفت ساعة الغروب على الشاطئ وراقبت المشهد الملوَّن حين تسحب الشمس خيوطها، وأنت تفتح كتاب أيامك، وتسأل: من أين تجيء التفاصيل الصغيرة التي توهمت سقوطها في الغياب؟
هل اخترت آخر الليل حين تنام الكائنات لحناً موسيقياً هادئاً، وتابعت النغمة الحزينة في اللحن تصعد وتهبط، ومعها تدخل التأويل والشرود والتخيّل، فتقاوم الدموع خوفاً من يقظة البكاء بصوت، وحين يرق اللحن خلف صوت المطربة تغني معها هامساً وقابضاً على بقايا من المنسيات البعيدة؟
هل جلست مرة للكتابة، فإذا الهوامش تفتح أبوابها، وإذا هي على غير ما ظننت ممتلئة وثقيلة، وإذا بك محاصر بألف.. ألف خاطرة.. وألف ألف وجه ممن عبر أصحابها طريقك.. وإذا بالريح تقلب أوراقك، والمكان يهتز، والدخان يملأ الغرفة، وفي دهشتك ورعبك تزدحم رأسك بكل من عاشوا في حياتك.. فتترك القلم والورق وتهرب إلى النوم.. لكنك لا تنام؟
لكنه لا ينام

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا
لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر
ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما
كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم
ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن
وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت