لا يعطش الجيم إلا قليلاَ

يعود كما يعود الجاهل فإذا به لا يعرف من يعرفه ولا يذكر من يذكره بالذي كان ومضى، وإذا بالصغار شبوا والصغيرات تزوجن وأنجبن البنين والبنات، والجدة العجوز ذهب ضوء عينيها، واستراحت لعتمتها المملوءة بالوجوه والحكايات، واستبدلت بصرها بيديها اليابستين، تمررهما على الوجوه والأكتاف، وتدعو بالطيب والمفرح في قادم الأيام.
يعود كما يعود الضال فإذا الطرقات التي مشى على ترابها تغيرت وتبدلت، واكتسى وجهها بالإسفلت، وإذا الشجرة العتيقة في مدخل البيت انحنى ظهرها وأطرافها، وبات يتسلقها الصغار دون تأنيب من الجد الرابض على بساطه كرحال هذه السفر في البلاد والزمن.

يعود كما ريشة أخذتها الريح يوماً في قلبها، دارت بها شرقاً وغرباً، صعدت وهبطت وتكسرت روحها بين التيه والأحزان، والآخرون يراقبونه كجني سكن الأماكن البعيدة، واستراح لغيرهم من العباد.
يعود كما الغريب لا يعطش الجيم إلا قليلاً، ولا يرتدي جلبابهم إلا نادراً، يعد قهوته ببطء على موقد كهربائي ويدخن كما حرائق العشب اليابس محترفاً الصمت والشرود، غائباً في حضوره عن مجالسهم المسكونة بالأمنيات، يلقبونه بـ ” العارف” وهو المتعب المنقوص، المغصوب على الشرح والتفسير، يسألونه تحت ضوء شاحب عن العولمة فتنغلق عليه قبلهم الأدلة والتأويل، ويلوذ بالشاي الثقيل حين يختبره المتباهي بذكائه بسؤال عن المجلس الانتقالي وخارطة الطريق، وفي آخر الليل يشدون الرحال بخطوات مثقلة بالهموم والأحلام، يتبعهم نباح الكلاب الراقدة في مداخل البيوت، وأصوات ضحكاتهم تجرح السكون لكنها لا توقظ المستغرقين في النوم منذ العشاء.
يعود كما الطفل يتبع أمه كالظل، يضيق صدره حين يرقب تجاعيدها الصغيرة تحت عينيها، ويفور دمه لحظة تسأله عن التي لا تعرف أنها ضاعت، يراوغ محترفاً ويقبل يديها كاتماً طغيان رغبته في البكاء، يقول لها عن البلاد التي لم ترها، يحدثها عن الطيب والخبيث من الناس فتدعو له ولأبناء الحلال، وترجوه أن يخطف قليلاً من الوقت ليطل على خاله على الطرف البعيد من البلدة، وتصمت حين يستدرجها بسؤال عما يغضب الأب في غيابه.
يعود فتعود إليه ذاكرته القديمة، يعرف الآن كم أنفق من العمر خلف سراب يتنقل، لا حصد راحة ولا استراح لمعرفة ولا اطمأن إلى غاية.
ها هو العائد بشياطينه يهذي، ويشير إلى صور قديمة على الجدران: ” كلما أحببتهم سقطوا من القطار. “

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

يكسرون الخاطر

المقالة التالية

وردة الحدائق البعيدة

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم

أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت