( لا يدخل الليل وحيداً ) وليس ( إلا وحيداً )

 

 
 
في كتابه الجديد ” لا يدخل الليل إلا وحيداً” الصادر عن المكتب المصري للمطبوعات بالقاهرة ، يصنع كمال عبد الحميد عالماً موازياً لعالمه الشعري الذي عرفناه في ديوانه الأول ” تمام الجحيم ” الذي وقعه في معرض أبو ظبي للكتاب العام الماضي ، وبالرغم من أن ” لا يدخل الليل إلا وحيداً ” هو كتاب يضم بين دفتيه مقالات سبق نشرها، إلا أن المفردة الشعرية والتقاط التفاصيل الصغيرة والهوس بالوجوه القديمة والأماكن المسكونة بالذكريات ، كلها أشياء يكتسي بها النص النثري الذي يتأرجح ما بين فن المقال والقصيدة النثرية والقصة القصيرة ، لذلك يشعر القارئ بأنه ينال في كتاب واحد ما يغنيه عن ثلاثة أو أربعة كتب
وعلى سبيل المثال كيف نصف كتابة كهذه

 

 
 يا أباه···
هل تذكر طفولته يوم كنت تجهز جلبابك الأنيق وتلف الرباط الزهري على رأسك وتضع قليلاً من عطر كثيف ثم تمضي في صباحاتك إلى ( البندر)، زائراً أصدقاءك وجالساً في المقهى الأثير، هل تذكر بكاءه لحظة يرف جلبابك ويفوح عطرك وأنت تغلق الباب ماضياً وتاركاً في قلبه الصغير أمنية الذهاب معك مؤجلة إلى حين، فيبقى مطارداً بحلم ركوب السيارات القديمة التي تزمجر في البدء كقطار مسكون بالعفاريت؟ هل تذكر ساعة عودتك محملاً بالفاكهة التي يحب فيقطع الطريق الترابي إليك فرحاً كأنما لم يكن باكياً في الصباح؟ هل تذكر لياليَ كان يكسر فيها عادات النوم مبكراً حاضراً مجالس الكبار في مقهى القرية معلقة عيناه بالشاشة الصغيرة وبالدراما التي تشبه حكايات الجدات
………..
وفي مقال آخر يستلهم كمال عبد الحميد عالم ( النفري) ومواقفه، وهو هنا يروي عن الثقل الذي يقيد روحه:  وقفتُ في موقف الطيران·· ولم أستطع، جهزتُ روحي وجسدي وقلتُ: أجرب أن أمضي بعيداً خلف الضوء واللون، وأتبع العطر حين يرج البدن، فما طارتْ الروح، وما ارتفع الجسد، قلتُ: ما الذي جرى؟ جناحاي ثقيلان، سقط الريش عنهما، لا يضربان الهواء كما كانا، ولا يصعدان بي إذا سرتْ في الدم فورة الوجد، أنا الطائر المسكون بالريح لا أستريح إذا تبدلتْ أحوالي وتسمّرتْ قدماي وسقط لساني..


هكذا يكشف الكاتب عن قلقه وأسئلته الحائرة ، يكشف عن لغة شاعرية وروح صوفية، وعن عالم خاص به أتاح له أن يعطي لنصوصه أجنحة تطير بها ما بين الشعر والقصة والمقال .


في كتابه ” لا يدخل الليل إلا وحيداً” الذي أهداه إلى طفله: ” ناصر ..الفرح الذي يسبق اسمي ” ،يروي كمال عبد الحميد عن الشخصيات التي قالبها في رحلة عمله الصحفي ، ومن بين هؤلاء الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين الذي زاره الكاتب قبل وفاته وإن لم يستطع رؤيته : ( دخول شقة أحمد بهاء الدين يملأ مشاعرك بشحنة هائلة من الارتباك، وبالذات إذا كنت قد انتظرت هذه اللحظة طويلاً، لم نجلس في الصالون في مدخل الشقة، وإنما استقر بنا الحال في غرفة داخلية وسيعة أشبه بالبهو، في بدايتها صالون كلاسيكي، وفي نهايتها صالون عربي، بالإضافة إلى مكتبتين صغيرتين اشتراهما أحمد بهاء الدين من منطقة ” العطارين” منذ سنوات طويلة مضت، وفي المنتصف يستقر مكتب صغير أنيق، مكتب خشبي صامت، ولعله حزين، هذا هو مكتب أحمد بهاء الدين وبجواره ماكينة تصوير أوراق·
كان عليّ أن أجول ببصري طويلاً في جدران الشقة لأشاهد كل هذه اللوحات المدهشة لكبار الفنانين، كأنني في متحف يجمع بين تيارات، ومدارس فنية مختلفة، هذه لوحة لتحية حليم، ولوحة لحسن سليمان، وثالثة لآدم حنين، ورابعة لجاذبية سري، وخامسة لإنجي أفلاطون، وسادسة ·· وسابعة، وفي الشقة تشدك مشاهد التماثيل الصغيرة والأنتيكات، على المكتبة الأولى تمثال غاندي، على رف المكتبة الثانية تمثال دون كيشوت·· وفجأة أنهيت متابعة المكان بالسؤال
سألت مدام ديزي عن الكاتب الكبير·· عن صحته وأحواله؟
فأجابت في هدوء: بخير
طرحت عليها سؤالاً ثانياً بفضول غريب: أين هو الآن؟
تمسكت هي باختصارها البليغ: نائم في السرير!
وكأنها قرأت سؤالاً ثالثاً يرقص حائراً في صدري، فأضافت: لا يمكن مقابلته·
وخيم صمت له رائحة الغياب، والفقد وطعم الحنين، صمت لا يمكن وصفه قاس، لا قدرة لأحد على احتماله أو مقاومته، ترى ماذا يحدث الآن لو قمت مندفعاً وفتحت حجرته التي راقبت بابها منذ دخولي الشقة، وحتى انتهاء الزيارة؟ ماذا يحدث لي لو أنني غافلت كل من حولي، وتسللت كاللص على أطراف أصابعي، وفتحت الباب ورأيته في السرير؟ لن أوقظه·· سأملأ صدري من هواء غرفته، سألمس غطاءه وربما جبهته، سأقترب منه في حذر، وخوف، ورهبة مثل اقتراب تلميذ صغير من أستاذ جليل، سأهمس بصوت خفيض: ألف سلامة يا أستاذ بهاء

………………….

ولا ينسي كمال عبد الحميد في نصوص مقالاته – إذا جاز التعبير – أن يكتب بروحه ولغته الشعرية عن عالمه القروي في جنوب مصر ، عن أولئك البسطاء الذين يتقاتلون مع الحياة، عن أبو الرجال الذي قهره المرض فمات في ضعف لم يكن أحد يتخيله ، أو عن بائع الليمون الأعمى الذي كان يقطع الشوارع كأنما يبصرها ، وعن خط الصعيد الخارج عن القانون بفعل حقد على ضابط شرطة عرضه للإهانة والذل ، وعن العجوز التي كانت تنوح صبح مساء : (استقرتْ في غرفة صغيرة ضيقة في بيت زوج ابنتها الكبرى، انطفأ نور عينيها من البكاء والحسرة، كل مساء تصدح بالمراثي وتضمر في عزلتها، من أين حفظت هذا ( العديد) الحزين؟ عدودة بعد أخرى، خيط طويل لا ينتهي من الحزن ، تبدأ نحيبها على صغيرها الذي غاب، يأخذها الإيقاع الجنائزي ” للعدودة ” من حال على حال، من جرح قريب إلى فقد قاس ، تبكي أحوالها، فقدها الابن والزوج:
يا عمود بيتي والعمود هدوه
يا هل ترى في بيت مين نصبوه؟
يا عمود بيتي والعمود رخام
يا هل ترى في بيت مين اتقام؟
…………….. 

رحلة القارئ في كتاب ” لا يدخل الليل إلا وحيدا ” ، رحلة لا تخلو من المتعة والشغف بكل ما اصطادته العين الثالثة للكاتب ، تلك العين التي تلتقط ما لا يستطيعه الآخرون ، إنها عين القلب والروح والحساسية المفرطة تجاه التفاصيل ، لذا قد يبدو العنوان الذي يحمله الكتاب مراوغاً ، لأنك في نهايته سوف تعرف وتتيقن أن كمــال عبد الحمــيد ( لا يدخل الليل وحيداً ) وليس ( إلا وحيداً ) ، فكتابه يفضح روحه المسكونة بكل ما عاشه ورآه ، بكل ما أحبه وخسره ، وتلك التفاصيل الحية هي التي لن تجعله وحيداً في ليله الذي يزدحم بالذكريات
مجلة نصف الدنيا – القاهرة أغسطس 2006 –

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Default thumbnail
المقالة السابقة

محمود درويش على الضفة الأخرى

المقالة التالية

الروح الهائمة في .. لا يدخل الليل

اخر المقالات من في خبر كانَ