كلّ هذا الأربعاء

السادسة والنصف.. نصف اليقظة
مبكراً أستيقظ، عيناي ثقيلتان كطبقتين من الرمل، وبقايا كابوس صغير في الرأس، أتقلب ذات اليمين وذات الشمال باحثاً عن طرف النوم الذي يكاد يهرب، أي حلم هذا الذي يوقظنا كجرس إنذار؟ أي إشارة غامضة تسحب الروح إلى سؤال القلق؟ الغموض الذي يغلق الحلم على سواده، يجعل نصف اليقظة وهماً، فيقع النوم أسفل السرير، وفوقه أبحث عن طعم القهوة البعيد..
السابعة.. هاتف البكاء
يرن كصراخ عميق، صوت الهاتف قادم من بئر جاف، حاد ومتقطع مثل استغاثة أخيرة، أراقبه عن بُعد كمن يراقب ذئباً جائعاً، أخاف أن أرى رقم المستغيث واسمه، أعرف أن النداءات المبكرة لا تحمل غالباً إلا أنباء الفقد، أقول لهاتفي (اصمت)، وأدفن وجهي في وسادة لا عطر فيها سوى عطري، وأخافُ.. أخافُ.. أخافْ.

السابعة والثلث.. استغاثة الفزع
يعود الرنين فأتحرك إلى الهاتف، أجيب على الرقم الدولي، يأتي صوتها فزعاً وقاتلاً كرصاصة حارقة، كلماتها دموع، ونحيبها فجيعة، تقول صارخة: “أمي ماتت”، هي الابنة التي حملت أمها على كتفيها، هي الابنة التي دارت بها من طبيب إلى طبيب، هي الابنة التي أنفقت ما تملك لتهب أمها الصحة والعافية، هي الابنة المفجوعة بموت أمها، هي الزميلة هويدا عطا المستغيثة عن بُعد أمام فزع الحقيقة في الموت•
الثامنة..الحياة هكذا.
قلتُ لها ما يقول الناس للناس حين تجيء الفاجعة، قلت لها بعض ما أحفظ من الذكر الحكيم، قلت لها عن حكمة الله، ورحمة الله، والصبر على المصيبة، ولأنها في قبضة الهول، في قبضة الزلزال والنازلة، يتقطع كلامها بالبكاء، ويتقطع بكاؤها بالصراخ، وصراخها بما لا يُطاق من الحسرة والسؤال، وحين أغلقت الهاتف، فتحت يومي كله على وجوه من غابوا، على وجوه أولئك الموتى الطيبين، (الموتى الذين نحبهم.. ونخاف العودة إلى صورهم ليلاً)
• التاسعة.. تذكرة سفر
يسألني صديق الحياة، يسألني سيد الطيبة، يسألني محمد حامد راضي عن سر الحزن والهاتف والنظرة الملقاة على أطراف البنايات، يسألني ما الذي يجعل صباحك قبراً، وقهوتك سوداء، وصمتك طاولة دون خبز أو ماء، فأقول له عن الزميلة التي فقدت أمها، عن التي ضحت وصنعت بوفائها جنة البر بالوالدين على الأرض، فيهمس الصديق بالعزاء والحكمة، ويحزم حقائبه لأن الصباح ذاته موعد طائرته، لأن هذا الصباح ذاته قرر ألا يترك بجواري أحداً، لا أحد سوى ما تبقى من وهج زيارة صديق، وما تبقى من فزع زميلة في بكائها العميق.
• العاشرة وما بعدها.. إغماءة التعب
ما بين القهوة والريح والشوارع المغمورة بالخطوات المسرعة، ما بين الأغاني المنتقاة كعزاء طيب، وبين كل ما أضعه في الروح من أسئلة معتقة وجافة. ما بين سكون المكتب وضجيج القلق، يتقافز الزملاء باتجاه الزميل حسين بدر الدين الذي فقد الوعي لثوانٍ خاطفة، عشرون ثانية جمدت الدم في العروق، ورسمت على وجوهنا خيوطاً من الخوف، وحين استرد وعيه استرد كل منا نصيبه من الطمأنينة، أي يوم هذا؟ أي يقظة من حلم ثقيل، يتبعه نبأ موت، تتبعه إغماءة زميل؟
•• أيها اليوم.. يا هذا، أنتَ يا أربعاء التوتر.. ما الذي تخبئه في حقائبك؟ ولماذا.. لماذا وضعت في طريقي كل هذا البكاء..؟ أيها اليوم، أنتَ، يا أربعاء من ماتت أمها، وأربعاء من سافر صديقه، وأربعاء من سقط زميله في إغماءة التعب، لن أدخلكَ بعد اليوم إلا كمن يدخلُ بيتاً غريباً، وموحشاً، وناقماً عليه.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Default thumbnail
المقالة السابقة

البحث عن السعادة

Default thumbnail
المقالة التالية

ضمير الغائب (إلى وليد قدورة)

اخر المقالات من سيرة الحنين والفوضى

THE VOICE OF ENIGMA

بالأمس قررت أن أكون وحيداً مع صوت “إنيجما”، قررت أن أكون مخلصاً لها لمرة واحدة، وفي