قهوة الصباح المرّ

لم ألمح في عينيه مرة شراً، أو ضغينة، أو حقداً، ولم تكشف لحظات غضبه إلا عن طفل كبير بقلب مسكون بالوجوه والأمكنة والحكايات، ولأنه يعرف كم تمتلئ خزانة ذاكرته بالأسرار المعقودة على أسماء كثيرة، يحرص حين يروي حكاياتها على أن يأخذك بعيداً عن أصحابها الحقيقيين، يضرب سياجاً حديدياً أمام تخميناتك، وحين تبدأ بتفسير الأحداث، وتسعى إلى ربطها بالأمكنة والزمن والناس، لاتصل إلى شيء محدد، فقط تأخذ من رواياته الكثيرة ما أراد هو أن يعطيك منها، حافظاً لأولئك الذين أحبهم في الماضي ما يليق بهم وبهن من الكتمان والوفاء.
يحدثك عن صديقه الأوحد الذي أعطاه في روحه منزلة لا ينافسه فيها أحد، يقول فيه ما قالت العرب في الخل الوفي، ذلك المستحيل الذي تحقق له في أخ لم تلده أمه، وعندما يصمت الكلام لحظة، تلمح في عينيه اطمئناناً لطريق الحياة الممهد بالرفقة الآمنة والصداقة التي تكبر بينهما كشجرة نخيل طيبة.
حين يمشي تسبقه سحابة من الدخان
حين يجلس يمتلئ المكان ببنات أفكاره، وكأنها عذراوات في انتظار التحقق، تصعد مع خيوط دخان سجائره في دوائر متتالية، منها ما يبقى، ومنها ما يستعصي على الإدراك، ومنها ما لا مكان أو زمن لها، غير أنه يذهب معها إلى الرغبة في إمساكها ولو بعد حين.
يطلب قهوته المرّة
ويسحب نفساً من سيجارة احترق نصفها
يقول، كأنما يحدث نفسه، وكأنني لست في المقعد المقابل: كانت امرأة تعشق الجاردينيا وهي تتفتح، وقهوة الصباح المرة، تلك الفناجين المتعاقبة حتى انتفاخ الرأس، ونضوج الوردة البيضاء.
يسأل، ولا ينتظر مجيباً، وأنا أراقب أسئلته الطائرة مع دخانه: من أين للعصافير تلك الألوان والألحان؟ كيف أطير معها لأرى البحر؟
يضيف مع سيجارة جديدة: كانت امرأة تحب قهوة الصباح المرّة، كانت تفرش جنونها على الرمل، تعرف اختصار الحب في أغنية، وكالظل تمشي إلى جواري، لا تنام إلا حين ينسحب الليل أمام الفجر الصغير خلف زجاج النوافذ، كانت امرأة حلوة بطعم القهوة المرّة، لكنها – ذات صباح – تركت فنجانها على الطاولة رهن الانتظار، ولم يبق لي من أيامها سوى لون الفنجان، جنونها المفروش على الرمل، وزهرة جاردينيا في انتظار أن تتفتح.
في يوم آخر يكون خارج طقسه اليومي
تستفزه الأشياء الصغيرة، لكنه لا يناور في انفعاله، لا يرتدي ثوب الدبلوماسية، فيقول ما في قلبه دفعة واحدة، يحترق كسيجارته التي لا تنطفئ، ويهرب – حين تضيق به الأمكنة الوسيعة – إلى فنجان قهوته.
دمه عربي
يُقَلّب الجريدة باحثاً عن منطق لقبول الانكسارات القومية، يشرد كمن يتعقب زمناً عربياً لا يجيء
يكتم غيظه أمام سقوط العواصم الجميلة
يكذب حين يبتسم أمام طرائف الحروب والهزائم
يلوذ بصديقه الأوحد ليعرف الفرق بين النساء.. والمدن.
آهٍ يا صديقي..
كم مدينةً سقطت طواعية بين يديك؟

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

ما قاله الظل ولم أسمعه

المقالة التالية

زيارة القلب العجوز

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم

أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت