في حضرة الأستاذ-3



ما زلت في بيت أحمد بهاء الدين..
ما زلت مأخوذاً بما أراه.. وأسمعه من زوجته السيدة ” ديزي” وابنته ” ليلى”
ما زلت راغباً في أن أراه ولو لثانية واحدة وهو راقد على فراش المرض
ما زلت أذكر تفاصيل اللحظات التي عشتها هناك
مرة أخرى عدت لأواجه صراعي مع باب الحجرة التي يرقد خلفها الكاتب الكبير، إنه باب مثل ملايين الأبواب، تكفي يد واحدة لفتحه.. يدٌ واحدةٌ تدير المقبض، لكن اليد تعجز عن تحقيق الحلم، والباب الصامت يومئ، ويكاد يشير، وينطق: افعلها..

ولم أفعلها احتراماً لحقيقة لا مفر منها، ( مقابلته ممنوعة )، لكن ماذا يفعل الآن؟ هل استيقظ من نومه؟ هل قال شيئاً أو طلب من الممرض شيئاً ما؟ ما الذي يحدث خلف هذا الباب؟
وصارحت زوجته بهذه الأسئلة، فأجابت مدام ديزي: يستيقظ عادة كل يوم في التاسعة صباحاً، يدخل إليه الممرض ليقدم له الإفطار، وهو عبارة عن فول مصفّى، وكوب لبن به دواء مقوٍ، ثم كمية أدوية مختلفة، وإبرة أنسولين، بعد ذلك يدخل الحمام ويخرج ليجلس في البلكونة حتى الساعة الـ12 ظهراً، وفي هذه الفترة ندير له الكاسيت وبالتحديد الموسيقى، وأغنيات عبد الوهاب وعبد الحليم القديمة، ويمكن أن يقرأ مانشيتات الصحف، ونحن نحاول إبعاده عن أخبار الكوارث وفي الساعة الثانية نجهز له الغداء المكوّن من صدور الفراخ أحياناً، والخضار، وهو أكل مهروس ثم كوب لبن أو عصير برتقال، وفي الساعة الرابعة يتناول ” شوية مهلبية “، أما العشاء ففي الساعة الثامنة مساء.
فترة مشاهدته للتليفزيون تبدأ من الرابعة وحتى الثامنة مساء، وكما قلت فإن مشاهدة الكوارث أو الاستماع إلى الأخبار المقبضة من الممنوعات التي نبعده عنها، لذلك نختار له المسلسلات والأفلام الهادئة، وأذكر أنه استمع أثناء غزو العراق للكويت إلى الأخبار فتأثر كثيراً، وقال: ليه.. ليه؟
– هل شعر بالزلزال الذي وقع مؤخراً؟
– لا..

– هل يضحك؟
– وتجيب مدام ديزي بهدوء، نعم..
– وأسألها: هل تتحدثين معه، هل يرد عليك؟
– وبالهدوء نفسه تقول مدام ديزي: أقول له صباح الخير يا بهاء.. وإذا لم يأكل أسأله عن السبب فيقول: أسناني.. ثم يسأل: فين ليلى، فين زياد؟ ويسأل أيضاً عن أخواته، وقد توفيت أخته الكبيرة، ولم نخبره.
– ألم يسأل عن مرضه، عن حالته؟
– لا..
وتعود مدام ديزي للتحدث عن تفاصيل حياة أحمد بهاء الدين مع المرض: بعد أن يتناول العشاء في الثامنة مساء ندير له الكاسيت مرة أخرى، لكن بأغنيات أم كلثوم، ثم ينام، وخلال كل هذا لا يفارقه المرض، ولا نغفل نحن عنه لحظة واحدة•
– والأمل في العلاج؟
– تقول مدام ديزي: آخر مرة كنا في أمريكا قال لي الأطباء: إن كل ما نستطيع القيام به هو أن يرتاح فقط.. وأحمد الله أنه لا يتألم!
وبدا أنها هي التي تتألم الآن لذلك، ابتلعت بقية أسئلتي، وعلقت بصري بتمثال غاندي، وأنقذت الزميلة نرمين القويسني الموقف بسؤال عن حب أحمد بهاء الدين للرسم، وقد جاء السؤال في وقته ليُخرج مدام ديزي من أحزانها التي ملأت عينيها•• وحين تكلمت قالت: بهاء كان يتمنى أن يكون رساماً.. كان ( غاوي رسم )، وفي إحدى المرات كنا في الإسكندرية ( وطلعت معاه ) أن يتفرغ للرسم، وبالفعل اشترينا كل ما يلزمه من أدوات وألوان.. وبدأ يرسم ثم توقف.
وقالت مدام ديزي: بهاء.. نائم الآن في السرير.
وقالت: بهاء.. خجول عند مدحه، لكنه ليس متحفظاً.
وقالت: بهاء لا يحب البهرجة.
وقالت: بهاء.. يهتم بالأقلام ” الشيك”
وقالت: لم تتغير علاقتي به حتى اليوم.
وقالت: ليلى أخذت عن أبيها صفات كثيرة مثل الذكاء، وطول البال، والصبر على الناس، والهدوء، وعدم العنف في الكلام.
قالت مدام ديزي، لكن عبارة واحدة ظلت ترن حولنا طوال زمن الزيارة، عبارة واحدة- من بين ما قالته- تصلح لأن تكون مُفَتَتَحاً لأي حديث عن الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، فهي عبارة تؤرخ للحضور، والغياب.. ( بهاء.. نائم الآن خلف هذا الباب )
نحن الآن نتقاسم هواء الشقة معاً، الآن تمر نسمة هواء من أمامنا، وتدخل صدورنا ثم تخرج محملة برائحتنا، وربما تتسلل إليه في غرفته، ربما تدخل نسمة الهواء ذاتها إلى صدره فتقول له: إننا هنا.. بالقرب منه.. جئنا من أجله، جئنا بملايين الكلمات، وبملايين المشاعر الصامتة التي سنضعها في كل مكان بالشقة، في كل مكان جلس أو وقف أو نام فيه.
نحن هنا بالقرب منك.. فهل تسمع حديثنا عنك؟
كان هذا السؤال الصامت آخر ما سألته وأنا أغادر البيت مسكوناً بالحزن والأسى، وبعدها، بعد أن مرت عليه شهور في سريره.. رحل أحمد بهاء الدين، تاركاً ذلك اليوم الذي كنت فيه قريباً منه، يوماً لا أقدر على نسيانه.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Default thumbnail
المقالة السابقة

الرجل بالغليون في مشهده الأخير

Default thumbnail
المقالة التالية

في حضرة الأستاذ-2

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم

أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت