في حضرة الأستاذ-2



عندما استقبلتنا السيدة ديزي زوجة الكاتب الكبير بسحابة ممطرة من الود والترحاب اكتملت تماماً الصورة العائلية لأسرة ” الأستاذ “، خاصة حين انضمت إلى الجلسة ابنته ليلى الدبلوماسية في وزارة الخارجية، ثم بعد قليل حضر زوجــها الدبلوماسي أمجد عبد الغفار.
دخول شقة أحمد بهاء الدين يملأ مشاعرك بشحنة هائلة من الارتباك، وبالذات إذا كنت قد انتظرت هذه اللحظة طويلاً، لم نجلس في الصالون في مدخل الشقة، وإنما استقر بنا الحال في غرفة داخلية وسيعة أشبه بالبهو، في بدايتها صالون كلاسيكي، وفي نهايتها صالون عربي، بالإضافة إلى مكتبتين صغيرتين اشتراهما أحمد بهاء الدين من منطقة ” العطارين” منذ سنوات طويلة مضت، وفي المنتصف يستقر مكتب صغير أنيق، مكتب خشبي صامت، ولعله حزين، هذا هو مكتب أحمد بهاء الدين وبجواره ماكينة تصوير أوراق.

كان عليّ أن أجول ببصري طويلاً في جدران الشقة لأشاهد كل هذه اللوحات المدهشة لكبار الفنانين، كأنني في متحف يجمع بين تيارات، ومدارس فنية مختلفة، هذه لوحة لتحية حليم، ولوحة لحسن سليمان، وثالثة لآدم حنين، ورابعة لجاذبية سري، وخامسة لإنجي أفلاطون، وسادسة .. وسابعة، وفي الشقة تشدك مشاهد التماثيل الصغيرة والأنتيكات، على المكتبة الأولى تمثال غاندي، على رف المكتبة الثانية تمثال دون كيشوت.. وفجأة أنهيت متابعة المكان بالسؤال
سألت مدام ديزي عن الكاتب الكبير.. عن صحته وأحواله؟
فأجابت في هدوء: بخير!
طرحت عليها سؤالاً ثانياً بفضول غريب: أين هو الآن؟
تمسكت هي باختصارها البليغ: نائم في السرير!
وكأنها قرأت سؤالاً ثالثاً يرقص حائراً في صدري، فأضافت: لا يمكن مقابلته.
وخيم صمت له رائحة الغياب، والفقد وطعم الحنين، صمت لا يمكن وصفه قاس، لا قدرة لأحد على احتماله أو مقاومته، ترى ماذا يحدث الآن لو قمت مندفعاً وفتحت حجرته التي راقبت بابها منذ دخولي الشقة، وحتى انتهاء الزيارة؟ ماذا يحدث لي لو أنني غافلت كل من حولي، وتسللت كاللص على أطراف أصابعي، وفتحت الباب ورأيته في السرير؟ لن أوقظه•• سأملأ صدري من هواء غرفته، سألمس غطاءه وربما جبهته، سأقترب منه في حذر، وخوف، ورهبة مثل اقتراب تلميذ صغير من أستاذ جليل، سأهمس بصوت خفيض: ألف سلامة يا أستاذ بهاء!
عدت من خواطري إلى حالة الصمت التي أصابتنا جميعاً، هربت منها بإعلان رغبتي في اكتشاف مكتبته، واخترت بعض عناوين الكتب التي تستند إلى بعضها في سكون: ملفات السويس لمحمد حسنين هيكل، ومعالم تاريخ الإنسانية لـ” هـ• ج• ويلز” ، وفي منزل الوحي للدكتور محمد حسنين هيكل، وتاريخ الجبرتي ، وتاريخ مدينة دمشق للحافظ بن عساكر، والحروب الصليبية لحسين أحمد أمين ، وتاريخ شعوب وادي النيل في القرن التاسع عشر، والموسوعة الفلسطينية.
تقول مدام ديزي: لقد تزوجت أحمد بهاء الدين عام 1959 في شقة غرفة وصالة، ثم انتقلنا إلى هذه الشقة عام 1960، وقد عرفته بعد موقف غريب، فقد كان رئيساً لتحرير مجلة ” صباح الخير” وفي أحد الأعداد كتب مقالاً عن معسكرات الاعتقال في الاتحاد السوفييتي، واستفزني المقال بصورة دفعتني لأن أبعث إليه برسالة أتهمه فيها بأنه عميل أمريكي يحاول تشويه الاتحاد السوفيتي، وذكرت في نهاية الرسالة اسمي والكلية التي أدرس فيها، ونسيت الأمر تماماً، حتى فوجئت ذات يوم بخطاب منه على عنواني في الجامعة يقول لي فيه إنه من الأفضل أن أذهب إليه لمناقشته وجهاً لوجه بدلاً من الاتهام القاسي الذي ألصقته به، ولم أذهب لمقابلته، ومضت الأيام حتى رأيته مصادفة يدخل إحدى المكتبات في شارع قصر النيل، وكنت لحظتها جالسة إلى صديقتي صاحبة المكتبة، فأشارت إليه وهي تقول: هذا هو أحمد بهاء الدين، وبالفعل تعارفنا في ذلك اليوم.
– هل أقنعك بما كتبه في المقال؟
– تجيب مدام ديزي: من يومها، وهو يقنعني بوجهة نظره، وتضيف: كان يحرص دائماً عندما يسافر خارج مصر على الكتابة إليّ، فكلما ذهب إلى بلد أرسل خطاباً، لم تكن كلمات خطاباته سطحية، حتى في الكتابة عن مشاعره كان بليغاً وحساساً، وأذكر أن له رأياً مهماً في المرأة، وهو أنها لا بد أن تكون ذات شخصية متكاملة، وأن تكون قوية، وكان لديه اقتناع كامل بأن ما يكتبه وينادي به هو ما يعيشه بالفعل، أو ما يستطيع أن يفعله، ويعيشه، فإذا كتب على سبيل المثال عن المرأة وحقوقها فإنه على استعداد لأن يعطي هذه الحقوق لزوجته، لقد كان صادقاً مع نفسه، ومع الآخرين، ولم يعرف الأقنعة أبداً في حياته، ولم يكتب سطراً واحداً لا يؤمن به، وأعتقد أن الناس أحبوا بهاء لإحساسهم العميق والصادق بأن هذا الكاتب لم .. ولا يضحك عليهم.
توقفت مدام ديزي عن الكلام
وخيم الصمت مرة أخرى على جلستنا، وإن كانت الأسئلة لا تزال تضج في صدري•• أذكر أن ذلك اليوم لم يكن يوماً مكرراً، ربما كان جميلاً، وحزيناً في آن واحد، لكنه أبداً لم يكن ثقيلاً، في تلك اللحظة كان الثقل الوحيد هو هذا الهم الذي يصدره مرض الأستاذ، هذه الخلايا الصغيرة في المخ التي تموت ولا تتجدد بلا سبب•• كانت التفاصيل كثيرة، والحكايات بلا نهاية.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Default thumbnail
المقالة السابقة

في حضرة الأستاذ-3

المقالة التالية

في حضرة الأستاذ - 1

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم

أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت