في حضرة الأستاذ – 1

دون مناسبة تذكرت ذلك اليوم البعيد، ذلك اليوم الذي تفصلني الآن عنه سنوات طويلة محمّلة بالكثير من الأماكن والوجوه والذكريات، والآن، وأنا أقف في شرفة تطل على ما فات، رأيتني أستعيد تفاصيل اليوم الذي ذهبت فيه إلى بيت الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين، كان وقتها لا يزال على قيد الحياة، راقداً في فراشه بعد إصابته بمرض غريب في المخ منعه من الكتابة ومن تفاصيل الحياة اليومية ومن الكلام إلا قليلاً
كنت واحداً من كتيبة من الصحفيين الذين جنّدتهم الأستاذة سناء البيسي رئيسة تحرير مجلة ” نصف الدنيا” حينها لإعداد ملف خاص عن أحمد بهاء الدين بمناسبة عيد ميلاده التاسع والستين، كان احتفاءً وعرفاناً لازمين لضمير كاتب عربي ظل طوال مسيرته وفياً لعروبته وقضايا أمته، كنت أعلم أن مرضه الغريب الذي احتار فيه الأطباء سيحول بيني وبين مقابلته، لأن ذلك لم يعد ممكناً على الإطلاق، لكنني استسلمت لاحتمال حدوث ما أتمناه.

دون مناسبة استعدت تفاصيل ما جرى، وإن كنت مقتنعاً بأن الطيران إلى الخلف، والتحليق في فضاءات مضت هو ” حالة استرداد جائزة “، ويكفي القلب أن يمتلئ بالحنين لتصبح المناسبة حاضرة بكل شروطها، وهذا ما كتبته في ذلك اليوم عن ذلك اليوم.
لم تبق سوى دقائق، هكذا تشير عقارب الساعات في الأيدي، وعلى الحوائط، وفي الميادين، دقائق ستمر مثل ملايين الثواني، والدقائق التي مرت من قبل، لكنها في ذلك اليوم كانت اليوم تختلف، ثمة رغبة تكاد تكتمل حين تتحرك السـيــارة في اتجاه مــنزل ” الأستاذ”
عندي رغبة جارفة في احتواء المكان، وإيقاف الزمن داخله، هي رغبة في الإحاطة بالعالم الخاص للكاتب الكبير.. وربما اكتشاف العلاقة بين المكان، وصاحبه، وتأثير كل منهما في الآخر
هذه الدقائق التي سبقت الزيارة لم تكن هامشاً بلا معنى، لم تكن مساحة محايدة، بل مساحة مشحونة بالانتظار، كانت أيضاً جزءاً من الزيارة ذاتها
لم أكن جاهزاً يوم الزيارة سوى للزيارة نفسها، وفي الساعة الثانية عشرة ظهر ذلك اليوم البعيد تحركت سيارة الأستاذة نرمين القويسني وعلى المقعد الأمامي جلس المصور الفنان أنطون ألبير، وجلست في المقعد الخلفي صامتاً، ومأخوذاً بحوار داخلي، ومشاعر متناقضة من الفرح، والترقب، والانتظار
كنت أفيق بين لحظة وأخرى لأتابع ذكريات نرمين القويسني التي عملت سكرتيرة لأحمد بهاء الدين في بدء حياتها العملية، كانت تروي باعتزاز عن سيارتها التي جلس فيها من قبل توفيق الحكيم، وإحسان عبد القدوس، ويوسف إدريس، وكانت تنتقل في حكاياتها إلى سنوات عملها مع أحمد بهاء الدين فتقص ما لا نعرفه، وتروي مداعبات الكبار وقفشاتهم•
وهكذا أطبقت السيارة على مشاعري، وبدت هي الأخرى جزءاً من أيام أجري خلفها، وأتتبعها، حتى السيارة أصبحت اليوم مكاناً يجب زيارته•• وأنا الآن داخلها أتحسس المقعد باحثاً عن أثرٍ ما.. عن رائحةٍ لم تصلها يد الغياب المرير.
لم أشعر خلال وجودي في السيارة بأنها تتحرك إلى الأمام، إلى مكان قريب سوف نصله خلال دقائق، أحسست بأنني داخل ” عربة الزمن”، فهذه السيارة تتحرك إلى الخلف، تعود إلى الماضي، وفي لحظة ظننت أنها حيلة مقصودة لأخذي إلى زمن أحبه، أقول ” حيلة ” وأعني ” ورطتي” حين أجد نفسي فجأة جالساً إلى: توفيق الحكيم ويوسف إدريس، وإحسان عبد القدوس، وقريباً من ” أحمد بهاء الدين” في سنوات شبابه.

ودون قصد وجدتني ” ألعب ” مع ” عربة الزمن “، هي تشدني للخلف، وتنطلق للوراء، وأنا أجذب نفسي للأمام، وأتحرك بمشاعري إلى منزل ” الأستاذ ” بسرعة مضاعفة.
وأسلمت روحي لطائر الخيال الخرافي الذي حملني إلى بيت أحمد بهاء الدين، وقد شطح الخيال بي حتى رأيته يستقبلنا بابتسامة مشرقة، ويفيض علينا من كرمه، وفكره وتطرفت في زيارتي الخيالية، وتوقعاتي لأقصى حد، ولم أستيقظ إلا على صوت يقول: ” هذا هو البيت ” ولم يكن هو البيت فقد تغيرت، وتشابهت معالم البيوت، والشوارع، ولا أحد يعرف أحمد بهاء الدين هنا، وبالمصادفة تحول الخطأ في تحديد الشارع إلى صدمة قاسية لأن خمسة أشخاص هزوا أكتافهم عندما سألنا عن ” الأستاذ “، هزوا أكتافهم، ومضوا في طريقهم، وأحسسنا لحظتها بأننا نغرق بالفعل في محيط هادر من الثلج، والغريب أننا لم نبتلع صدمتنا، ونصمت بل قلنا في نَفَس واحد: لو سألنا عن لاعب كرة أو ممثل فاشل فإن ألف شخص سيدلنا عليه!
اقتنعنا في النهاية بأن المقارنة لا تصلح، وبعد عشر دقائق تقريباً من البحث عثرنا على الشارع، والبيت، وتنفسنا الصعداء داخل المصعد، وزاد ارتباكي عندما وقفنا أمام صمت الباب، لم أشعر بأنه مجرد باب شقة مكتوب عليه اسم ” أحمد بهاء الدين” أحسست أنه ” باب العالم ” أو ” باب إلى العالم كله”، أقف الآن إذن أمام باب مُغلق، وخلفه تاريخ كامل، سأحتاج إلى ألف عين لأرى كما يجب، وألف عقل لأفهم، وأرصد كما يجب، وأحتاج كذلك إلى ملايين الأصابع لأتحسس مكتبه، وأوراقه، وكتبه، وقبل أن يُفتح الباب، كانت حواسي كلها في حالة استعداد قصوى.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Default thumbnail
المقالة السابقة

في حضرة الأستاذ-2

المقالة التالية

نذالة طيبة

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم

أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت