في البدء كانت جميلة

في البدء كانت الكلمة، ربما، لكنني أظن أنه في البدء كانت النظرة، وكانت جميلة، كأن ترى امرأة لأول مرة فتتحسس ضلعك الناقص، الضلع الأعوج الذي نزع منك واستوى جميلاً ومدهشاً على هيئة كائن أنثوي أخذ جنساً مغايراً. تتحسس ضلعك في أول نظرة، وتود لو أنك أخذت هذه المرأة إلى داخل قفصك الصدري، ثم تطلق تنهيدة مطمئنة إلى اكتمالك
 هكذا هي جميلة، لم أرها مرة إلا وانتابتني رعشة إعادة الضلع إلى مكانه الذي ظل لسنوات فجوة غائرة في الجسد والروح
أقول جميلة، ولا أملك اليوم شيئاً، لأن فجوتي ستظل قائمة تزداد عمقاً يوماً بعد يوم. أقول جميلة وأنا أشعر أنني مثل لعبة البازل، لعبة القطع البلاستيكية البائسة، لأن عيباً في التصنيع جعلها بلا قيمة. كل ما أمثله هنا على الأرض لا يعكس سوى معادلة بشرية للعبة القطع التي لا تكتمل أبداً، يراد لها ألا تكتمل أبداً. أرتب قطع جسدي، أنتقل من مرحلة إلى أخرى، أنجح في تجاوز التعقيدات المقصودة، أراوغ وأتحايل،  تكتمل الرأس،والأطراف، ومع الوقت والتركيز أتبين هيئتي وقوامي، لكن تظل هناك فجوة عميقة على الجانب الأيسر من جسدي، أبحث عن القطعة التي تسد الثقب العظيم، قطعة القلب، فلا أجدها، أراها، وأعرفها، ولست في حاجة لاختبار قياسها على قياس الفجوة، لأنني أعلم أنها هي ذاتها وليس غيرها سوف تسد هذا الثقب المظلم، وستمنحه الحياة التي خلق لأجلها، لكنها قطعة ليست مللك يميني، ليست وهماً أو تخيلاً، بل حقيقة موجودة وماثلة أمامي، لكن خطأ ما، خطأ في تصنيعي نسى إرفاقها بعلبة حياتي
 كلانا معطلان إذاً، أنا معطل لأنني أعرف قياس فجوتي وقطعتي الناقصة ولا أملك استردادها، لا أملك أن أصرخ: توقفوا، هناك عيب في التصنيع، وهي معطلة لأنها لا تصلح إلا لما صنعت له، وما صنعت له ملقى بلا فائدة، بلا متعة، بلا قيمة أو ثمن، فما قيمة لعبة ندخلها ولا نهاية لها، أليس هو إذاَ لعبة مهملة تحت مئات الألعاب، كلما نظرت إليها امرأة أدارت وجهها ومضت عنها، لأن لا فائدة منه، كلما حاولت امرأة أن تبني من قطعه، المتناثرة جسداً وروحاً، حياة وبهجة، كلما حاولت إدخال قطعتها في فجوة جانبه الأيسر، وجدتها وسيعة عليها، فنقمت عليه، وألقت به بعيداً. أي لعبة قطع هو؟ أي لعبة هذه التي لا تمنحه حق السؤال والبحث، وإعادة التصنيع ثانية؟

أنظر إلى جميلة فأتحسس في كل مرة ضلوعي، وأشهق شهقة الباحث عن اكتماله. جربت كثيراً أن أسد فجوة نقصاني بقطع تشبهها، بقطع تقترب من قياسها، لكن شيئاً من ذلك لم يفلح معي، كأن فجوتي أصبحت أخدوداً عميقاً ومفزعاً يلتهم كل من يقترب منه.

– ملاحظة لم ترد في الكتالوج وعرفتها بالخبرة:
   قطعتي الناقصة اسمها جميلة، وجميلة قطعة لا تقبل التقليد، لن تفلح محاولاتي إذاً، وكما جئت ناقصاً، سأذهب ناقصاً، وستبقى هذه الفجوة العظيمة دليلاً على عظامي تحت التراب.

– دعاء قصير للعاشق:
خذها يا ألله، خذها من النوم واليقظة، من مقبض الباب وزجاج النافذة، من سقف الغرفة والجدران الميتة، من الكتاب والجريدة، الهاتف والأغنية واللحن، خذها من الشارع والناصية، التاكسي والمطعم والمقهى، الإشارات الحمراء والخضراء، من فتنة السرعة، ونشوة الضحك على دعابة عابرة

خذها من الكأس والفنجان وطعم الماء القليل، والشرود الذي يثقل الأصدقاء الجدد، خذها من صوت كل شيء، من المطرب حين يحب ويبكي، من البطل حين يشكو ويندم،  والهاتف حين يرن، من حنين الأم، وماركات السيارات،  وأسماء الوجبات السريعة، وعناوين المدن القاسية،. خذها من هوامش الكتب، من الحرف، والسطر، والجملة، من المعني المباشر، والمغلق، التأويل والتفسير
 خذها من الأمواج المنتحرة آخر الليل، ملح الشواطئ، لون الإسفلت، رطوبة الصيف، ومطر كان يرقص على زجاج عربة حفظت سر روحين. خذها يا ألله من دمي، من شهوة أصابعي، من عينيّ، ورئتيّ، من شفتيّ اليابستين بعد عسلها. خذها من ضمير رغبتي، وخبز انتظاري، من الوقت، والمواقيت، والمواقد المشتعلة باسمها. أخرجها يا ألله من روح جسدي، من وسادتي، وفراش لعنتي، من لون قميصي، جيب سترتي، من فندق يطل على خطوات بشر جاهلين بمحبة عظيمة، من موجة مات كلامها بعدها، وضحك لا يهز القلب
خذها يا ألله من دخان سجائري، من أغلفة الفيديو العاطفية، وعناوين الروايات الحزينة، من الكلام الضائع في الهواء، والأساطير المنقولة عن العشاق المجانين. خذها يا ألله بقوتك من ضعفي، بقدرتك من هواني، بمحبتك من حرماني. خذها برحمتك الوسيعة من غرفتي الضيقة، من شرفة لا أعلق في حبالها سوى حنيني، من أدراج المكتب المسكونة بشياطينها، من ملابس تذبل كأشجار لم تلمسها يدها، من كل طموح تافه بعد بهجتها، من مهنة سقطت حين سقطت نظرتها في البئر
 خذها إلى آخر ما تشاء هي، وخذني إلى أرض لم أخطو عليها معها، خذني إلى جحيم واحد، نار واحدة، ميتة واحدة. باسمك أصلي، باسمك أضيء الشموع، وأرتل ما تيسر من آياتك، أقول الله واحد أحد، الله محبة، الله صالح للكل، فخذ بيدي، أنا عبدك ضللت حتي فقدت طريقي، وأحببت حتى خسرت قلبي، أنت وحدك تعلم  مقدار محبتي، ووحدك تعلم مقدار خيبتي، فانعم على عبدك العاشق بما أنعمت به على سواه، رحمتك لا يسعها عقل، فحررني من جنون قلبي، خذني إليك إن لم يكن إليها، ارسل لي ملائكة غفرانك، ارفع جبال الحنين عن كتفيّ

  يا ألله .. وحدك تعرف  كم أحبها، وحدك  تعرف كم أنا ميت خلفها
وكم أصرخ في صمتي:  يا قطعة قلبي

1 Comment

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

كمال عبد الحميد - برنامج كلام الأقلام 4

المقالة التالية

همس الجنون

اخر المقالات من تأويل جميلة

اعتذار الفراشة

أحط بين يديك يا جميلة، لأعتذر عن حماقة صاحبي، جناحاي معطلان، جناحاي ثقيلان بالذنب حتى ترضين،

صائد التفاصيل

  الجحيم في التفاصيل، ربما.. وأولئك الذين يعيشون بذاكرتهم البصرية قد يكونون في لحظة ما أتعس

ليست مجرد امرأة

– اكتب، قل شيئاً، أي شيء، أكمل روايتك اليتيمة، لا تترك رقبتي هكذا دون جوهرة تليق