كانت القصيدة امرأة مراوغة إلى حد الخيانة، تلك الخيانة الطيبة التي لا تقتل بل تدعو إلى معرفة ما ينقصك لتبقى هي الأقرب إليك من غيرك، كانت أرواحنا تتلمس دروبها، وكان السحر مخبوءاً مثل كنز خرافي تعددت خرائطه واختلفت في وصف الطرق إليه، وكانت ثمة خرائط ناقصة، وثمة خرائط تآكلت بفعل الزمن والغبار، وخرائط ثالثة رسمت طرقاً وعرة، وكان الاهتداء بها مغامرة تقتضي التمرد والتجريب، ولا شهادة ضمان لمن يسلكها.
كانت لجماعة الشعر في جامعة سوهاج جنوب مصر في منتصف الثمانينيات مرايا متعددة، كل مرآة تعكس روح حاملها، ثمة مرآة لعبد الناصر هلال، وأخرى لياسر الزيات، وثالثة لجرجس شكري، ورابعة لكاتب هذه السطور، وثمة مرايا أخرى كانت تظهر وتتكسر على طريق التقليد والتجريب الشكلي، وكانت المرايا – شبه المكتملة- تحلم وتضيء قليلاً، وتسقط في العتمة أحياناً بفعل الحماسة الزائدة ونقص التجربة والخبرة، كما أن الخرائط كلها كانت ملتبسة، ومن ثم التجارب، وإن بدا في كل واحدة منها أن لصاحبه عالمه الذي يتشكل ببطء.
في ذلك الزمن، أو بعده بقليل، ظهرت مرآته، ظهر عصام أبو زيد، كان يتجلى على خشبة قاعة المؤتمرات بالجامعة بدعوة من الصديق الشاعر عبد الناصر هلال مقرر جماعة الشعر وقتها، وكان وقت أبوزيد الذي قد جاء به شاعراً مثيراً للدهشة، طالباً بالثانوية العامة يمسك بمشرط جراح خبير، ويقرأ قصائده على الملأ، فيقول الناظر والسامع: من هذا الغض الذي يجرح جسد الكتابة بمهارة؟
ظهر عصام أبوزيد مثل طائر يحوم فوق سفينة نوح الشعرية، لم يكن يطلب مساحة ليحط على ظهرها، بل اختار أن يبقى هناك أعلى السفينة، مشاكساً، جارحاً، يكاد يلمس ساريتها العالية، وكلما قلنا: ها هو يحط وينجو، ارتفع وضرب بجناحيه بعيداً، كأنما يقول: النجاة وهمٌ وثبات.
هكذا لم يشأ أن يستريح، كنت أتابعه بحب وإعجاب، وفي المرات القليلة التي رأيته فيها في أمسيات جماعة الشعر بالجامعة، أو زائراً للزميل الأديب خيري السيد رئيس القسم الثقافي بجريدة “صوت سوهاج” وقتها، كانت صورته المتخيلة كطائر شعري رشيق تكتمل واقعاً منظوراً، وكانت نحافته الشديدة يومها تضفي عليه تميزاً آخر باستحضار الرشاقة في قصائده، واقتناصه للبعيد العصي.
كان الزمن شرفة وسيعة تطل على تجارب رائدة في الانتقال بالقصيدة إلى عالم جديد ومغاير، وكانت سفينة نوح الشعرية قد تحركت بفعل تراكم تاريخي صنعه الخارجون عن قانون بحور الشعر التي أبقت السفن جميعها في حالة دوران ودوار لا وصول بعدهما إلى شيء، لا جزر عذراء، ولا شواطيء تتراءى في الأفق.
تحركت سفينة نوح الشعرية بعد أن وضعت شروطاً صاغها “الخارجون” عن قانون “البحور” في أزمنة متواصلة، وجمعت على ظهرها ما يستحق أن يبقى من تراث شعري مدهش وعميق جنباً إلى جنب مع تجارب حديثة رائدة أختارت أن تمسح زرقة البحار والمحيطات، أما الرؤوس التي كنا – ومازلنا- نحملها فوق أجسادنا فقد كانت مزدحمة إلى حد الجنون بما نسمع ونقرأ، ونتقصى في هوامش الكتب والمجلات الأدبية لنقفز بعدها بحثاً عن المصادر والإشارات، ولم تكن ثمة نهاية لهوس كان يدفعنا إلى الحواف العالية طمعاً في إرضاء القصيدة المراوغة التي كانت تطلب مهرها من “النوق العصافير”.
كان هوانا سبعينياً، رأينا في “إضاءة77” جناحاً خاصاً على سفينة نوح الشعرية، وقفنا على بابه، ترصدنا سكانه الأصليين، اختلفنا في محبة وتفضيل أحدهم على الآخر، حتى مضت السنوات، وصمتت مرايا، وانزوت أخرى، وكشفت ثالثة عن معدنها الأصيل وعن مواهب أصحابها الحقيقية، وبقيت مرآة عصام أبوزيد تزداد لمعاناً وعمقاً، وظل هو – وإن تنازل عن رشاقة جسده قليلاً- قابضاً على جمرة النار، عابثاً إلى أقصى حد، ومحلقاً فوق سفينة نوح الشعرية، كأنما يقول لساكنيها :”أنا هنا بين زرقتين: السماء والبحر”، أو كما يقول هو في ديوانه “أكلت ثلاث سمكات وغلبني النوم”: (لا وقتَ في الدنيا لانتظارِ سفينةٍ نصف ركابِها غرقى).
مثله لا يتبع السفن المهددة بالغرق، مثله لا يماثل حتى نفسه، لذا لم ينتظر يوماً عصام أبوزيد، ولم يطمئن إلى سفينة أياً كانت وجهتها أو كان قبطانها، حافظ على تلك المسافة السحرية بينه وبين الأرض المرتقبة، العالم الجديد، الشواطيء المتوقعة لسفينة نوح الشعرية، ربما لأنه في يقينه الخاص لا قصيدة مثال، ولا خريطة واحدة وموحدة، ولا وجهة جامعة، ولا استراحة لمحارب، لأنه شاعر يصنع الحرب بينه وبين الممكن، يخلق العداء الذي يستفز جنود روحه، يجيش موهبته، ويقول هي الحرب لا مفر، وكلما انتصر وغزا أرضاً، نظر إلى غيرها، واستنفر داخله لحرب جديدة، وهو حين يخاطب الحبيبة متجاهلاً المستحيل إنما يكشف عن جزء من مرآته الشعرية التي لا تعكس إلا العبث بكل تقليد مريح وكل سهل وثابت:( لا أعترفُ بالمستحيلِ لكنه تقليدٌ لطيفٌ في حياتنا الكسيحة / تقليدٌ نبررُ به عجزنا عن الوقوفِ والاستمرار).
لا أدري إن كان يجوز لي باعتباري شاهد زمن جمعني بعصام أبوزيد شاعراً وبغيره أن أقول إنني طالما وقفت أمام تجربته وتجربة الصديق الشاعر جرجس شكري موقف المتأمل المعجب، الباحث عن سر هذا التمايز في قصائدهما، على الرغم من اختلاف عالميهما الشعري، لكنهما ظلا بالنسبة لي – وما زالا- يمتلكان الموهبة والوعي على القفز من أرض إلى أخرى بخفة السحرة، ليس هذا فحسب، بل – كل منهما في طريق- يصنعان حالتي اكتشاف، اكتشاف القصيدة لذاتها، واكتشاف روحيهما في مرآتها، وفي ذلك كله تتجلى الخبرة الروحية في التعامل مع النص.
يعبث عصام أبوزيد.. أليس كذلك؟
نعم هو كذلك باعترافه نفسه في حديثه إلى الزميل سيد محمود بمجلة “الأهرام العربي”، حين يقول: (أنا شاب عابث وأرعن أطفأت بيدي الشموع المضيئة في حياتي)، وهذا العبث هو الذي يكشف عن المفارقات في تجربته، ويقدم تبريراً للتحولات التي “يرتكبها” بوعي وعن قصد، فهو لا ينتظر أن تجري هذه التحولات طبيعياً ضمن سياق زمني ممتد، وتراكم يؤدي إلى نقلات نوعية في قصيدته، أليست خفة الطائر من مزاياه؟ فلماذا لا يقفز قفزته الحرة ويأتي بالذي عليه أن ينتظره؟، وهكذا قد يظن البعض أن قراءة البدايات المدهشة لعصام أبوزيد في سن مبكرة نسبياً، لا تؤدي بمنطق التنبؤات والقياس إلى ما وصل إليه الآن، كأنما يوجد “عصامان”، لكن الحقيقة أن النبوءات لها شروطها، وهي في جوهرها قوالب تُحجّم المرصود بها، وتقولبه في إطار ما تراه فيه، وما تتوقعه منه، غير أن هناك دائماً نبوءات وسيعة، نبواءت تصف المختار وتترك له في زمنه وفي لحظة مجيئه أن يكون الذي يريده، وأن يبتكر – بما عنده من قدرات- رسالته، وأن يقدم نفسه كما يشاء، وهو ما فعله عصام أبوزيد عبر مجموعاته الأربع: الأولى “النبوءة” 1990، والثانية “ضلوع ناقصة” 1996، والثالثة ” كيف تصنع كتاباً يحققُ أعلى مبيعات”2012، ثم الأخيرة “أكلت ثلاث سمكات وغلبني النوم”.
ما فعله ويفعله عصام أبوزيد أنه لا يراهن على أحد، لا يراهن حتى على نفسه، لا شيء يجبره على أن يكون أسير نبوءة ناقد أو محب، وبالنسبة له لا معنى أن يقول أو يكتب أحد أن عصام أبوزيد سوف يستقر على مقعد مميز في قطار الشعر، لأنه ببساطة وبعناد وعبث عميقين لن يحاول أبو زيد أن يلحق بالقطار، سيفعل شيئاً واحداً، سوف يبتكر لجسده جناحين ويطير أعلى من القطار، حتى لو ظن البعض أن طيرانه إلى أعلى سوف يفصله عن الأرض، ولكن أي أرض؟ أليس الأرض ذاتها تدور بلا توقف؟ فلماذا عليه أن يقبل دورانها من دون أن يضاهيها سرعة؟
حسناً، لنتأمل قليلاً جزءاً من نص في مجموعته الأخيرة ” أكلت ثلاث سمكات وغلبني النوم”، وتحديداً قصيدته “نانا”، لا أدري ربما أكون مخطئاً فيما سوف أسرده، أو ربما أكون واقعاً تحت ظلال التماهي مع النص، لكنني أشعر برعشة حقيقية كلما قرأتها، تلك الرعشة القادمة من اللهاث الذي تعكسه مفردات القصيدة، وحالة الشاعر في رجائه وهو يواجه مصيراً قادماً وخاطفاً، حتى لو كان هذا المصير هو الحب العميق أو الموت العميق في اقتراب الله من روحيهما (الشاعر والحبيبة)، لنقرأ:
(مطرٌ ساخنٌ وغزيرٌ يا نانا
مطرٌ ساخنٌ وكلامٌ كثيرٌ سوفَ يجرح
على ذراعي ترسمينَ قلباً أخضرَ ثم تأكلينَهُ
على قلبي ترسمينَ قلباً آخرَ ثم تأكلينَهُ
توقفي يا نانا
توقفي
اقتربَ الله من أرواحنا كثيراً
اقتربَ الله
أحبُكِ يا نانا… أحبُكْ)
تأمل قوله (أحبُكِ يا نانا… أحبُكْ)، افتح حواسك كاملة للرجفة التي تأتي من الكلمات، أرصد هذه العجلة التي ينطق بها كأنما يلحق به فزع يخافه ويريد قبله أن يقول كلمته الأخيرة، أو كأنما نزل في روحه فرح غامر فتسارعت نبرته في اعتراف الحب(أحبُكِ يا نانا… أحبُكْ). إذاً ما القصيدة إن لم تكن كذلك؟
في قصائده لا يمنحك عصام أبوزيد بطاقة هوية خالصة ويقينية، فلا تطمئن لاعتقاد بأنه وصل محطته، وأن بطاقته تدل عليه، فلا شيء في تجربته يدل عليه غير العاصفة المتغيرة من نص إلى آخر، العاصفة التي تقلب بيوتاً حيناً، وتغرق أخرى في حين ثانٍ، حتى العواصف التي يأتي بها لا تتشابه ولا تكرر نفسها، يدخل قصيدته، يؤسس لها، يبني أعمدتها، ويعزف إيقاعها، ثم في قصيدة أخرى يهدم ما كان قد بناه في غيرها، إنها طفولة الشاعر التي لا تقدس شيئاً غير المتعة في الجديد، متعة الاكتشاف، والبحث عن الكنز في آخر عمق لزرقة المياه، أو كما يهذي جميلاً:( وما زلتُ أشتري حذاءً رياضياً لأصعدَ الجبلَ وأنامَ مع رفاقي/ نحن جئنا من قلبِ مغارةٍ مظلمةٍ ولم يكن ضرورياً أن نخرجَ إلى النور/ أنا خرجتُ لأنني ولدٌ طائشٌ ومجنون).
عصام أبوزيد، هذا الطائش المجنون يقتل نفسه في كل نص، ثم يخرج لنا لسانه في نص آخر بعد أن نكون حسبناه قد كتب نهايته. هذا الطائش المجنون بسبع أرواح، وبرغم ما فعله من سحر بنفسه وبنا، إلا أنني لا أظنه قد خسر حتى الآن روحاً واحدة من أرواحه السبع، فما الذي سيأتي به بعد؟
كانت لجماعة الشعر في جامعة سوهاج جنوب مصر في منتصف الثمانينيات مرايا متعددة، كل مرآة تعكس روح حاملها، ثمة مرآة لعبد الناصر هلال، وأخرى لياسر الزيات، وثالثة لجرجس شكري، ورابعة لكاتب هذه السطور، وثمة مرايا أخرى كانت تظهر وتتكسر على طريق التقليد والتجريب الشكلي، وكانت المرايا – شبه المكتملة- تحلم وتضيء قليلاً، وتسقط في العتمة أحياناً بفعل الحماسة الزائدة ونقص التجربة والخبرة، كما أن الخرائط كلها كانت ملتبسة، ومن ثم التجارب، وإن بدا في كل واحدة منها أن لصاحبه عالمه الذي يتشكل ببطء.
في ذلك الزمن، أو بعده بقليل، ظهرت مرآته، ظهر عصام أبو زيد، كان يتجلى على خشبة قاعة المؤتمرات بالجامعة بدعوة من الصديق الشاعر عبد الناصر هلال مقرر جماعة الشعر وقتها، وكان وقت أبوزيد الذي قد جاء به شاعراً مثيراً للدهشة، طالباً بالثانوية العامة يمسك بمشرط جراح خبير، ويقرأ قصائده على الملأ، فيقول الناظر والسامع: من هذا الغض الذي يجرح جسد الكتابة بمهارة؟
ظهر عصام أبوزيد مثل طائر يحوم فوق سفينة نوح الشعرية، لم يكن يطلب مساحة ليحط على ظهرها، بل اختار أن يبقى هناك أعلى السفينة، مشاكساً، جارحاً، يكاد يلمس ساريتها العالية، وكلما قلنا: ها هو يحط وينجو، ارتفع وضرب بجناحيه بعيداً، كأنما يقول: النجاة وهمٌ وثبات.
هكذا لم يشأ أن يستريح، كنت أتابعه بحب وإعجاب، وفي المرات القليلة التي رأيته فيها في أمسيات جماعة الشعر بالجامعة، أو زائراً للزميل الأديب خيري السيد رئيس القسم الثقافي بجريدة “صوت سوهاج” وقتها، كانت صورته المتخيلة كطائر شعري رشيق تكتمل واقعاً منظوراً، وكانت نحافته الشديدة يومها تضفي عليه تميزاً آخر باستحضار الرشاقة في قصائده، واقتناصه للبعيد العصي.
كان الزمن شرفة وسيعة تطل على تجارب رائدة في الانتقال بالقصيدة إلى عالم جديد ومغاير، وكانت سفينة نوح الشعرية قد تحركت بفعل تراكم تاريخي صنعه الخارجون عن قانون بحور الشعر التي أبقت السفن جميعها في حالة دوران ودوار لا وصول بعدهما إلى شيء، لا جزر عذراء، ولا شواطيء تتراءى في الأفق.
تحركت سفينة نوح الشعرية بعد أن وضعت شروطاً صاغها “الخارجون” عن قانون “البحور” في أزمنة متواصلة، وجمعت على ظهرها ما يستحق أن يبقى من تراث شعري مدهش وعميق جنباً إلى جنب مع تجارب حديثة رائدة أختارت أن تمسح زرقة البحار والمحيطات، أما الرؤوس التي كنا – ومازلنا- نحملها فوق أجسادنا فقد كانت مزدحمة إلى حد الجنون بما نسمع ونقرأ، ونتقصى في هوامش الكتب والمجلات الأدبية لنقفز بعدها بحثاً عن المصادر والإشارات، ولم تكن ثمة نهاية لهوس كان يدفعنا إلى الحواف العالية طمعاً في إرضاء القصيدة المراوغة التي كانت تطلب مهرها من “النوق العصافير”.
كان هوانا سبعينياً، رأينا في “إضاءة77” جناحاً خاصاً على سفينة نوح الشعرية، وقفنا على بابه، ترصدنا سكانه الأصليين، اختلفنا في محبة وتفضيل أحدهم على الآخر، حتى مضت السنوات، وصمتت مرايا، وانزوت أخرى، وكشفت ثالثة عن معدنها الأصيل وعن مواهب أصحابها الحقيقية، وبقيت مرآة عصام أبوزيد تزداد لمعاناً وعمقاً، وظل هو – وإن تنازل عن رشاقة جسده قليلاً- قابضاً على جمرة النار، عابثاً إلى أقصى حد، ومحلقاً فوق سفينة نوح الشعرية، كأنما يقول لساكنيها :”أنا هنا بين زرقتين: السماء والبحر”، أو كما يقول هو في ديوانه “أكلت ثلاث سمكات وغلبني النوم”: (لا وقتَ في الدنيا لانتظارِ سفينةٍ نصف ركابِها غرقى).
مثله لا يتبع السفن المهددة بالغرق، مثله لا يماثل حتى نفسه، لذا لم ينتظر يوماً عصام أبوزيد، ولم يطمئن إلى سفينة أياً كانت وجهتها أو كان قبطانها، حافظ على تلك المسافة السحرية بينه وبين الأرض المرتقبة، العالم الجديد، الشواطيء المتوقعة لسفينة نوح الشعرية، ربما لأنه في يقينه الخاص لا قصيدة مثال، ولا خريطة واحدة وموحدة، ولا وجهة جامعة، ولا استراحة لمحارب، لأنه شاعر يصنع الحرب بينه وبين الممكن، يخلق العداء الذي يستفز جنود روحه، يجيش موهبته، ويقول هي الحرب لا مفر، وكلما انتصر وغزا أرضاً، نظر إلى غيرها، واستنفر داخله لحرب جديدة، وهو حين يخاطب الحبيبة متجاهلاً المستحيل إنما يكشف عن جزء من مرآته الشعرية التي لا تعكس إلا العبث بكل تقليد مريح وكل سهل وثابت:( لا أعترفُ بالمستحيلِ لكنه تقليدٌ لطيفٌ في حياتنا الكسيحة / تقليدٌ نبررُ به عجزنا عن الوقوفِ والاستمرار).
لا أدري إن كان يجوز لي باعتباري شاهد زمن جمعني بعصام أبوزيد شاعراً وبغيره أن أقول إنني طالما وقفت أمام تجربته وتجربة الصديق الشاعر جرجس شكري موقف المتأمل المعجب، الباحث عن سر هذا التمايز في قصائدهما، على الرغم من اختلاف عالميهما الشعري، لكنهما ظلا بالنسبة لي – وما زالا- يمتلكان الموهبة والوعي على القفز من أرض إلى أخرى بخفة السحرة، ليس هذا فحسب، بل – كل منهما في طريق- يصنعان حالتي اكتشاف، اكتشاف القصيدة لذاتها، واكتشاف روحيهما في مرآتها، وفي ذلك كله تتجلى الخبرة الروحية في التعامل مع النص.
يعبث عصام أبوزيد.. أليس كذلك؟
نعم هو كذلك باعترافه نفسه في حديثه إلى الزميل سيد محمود بمجلة “الأهرام العربي”، حين يقول: (أنا شاب عابث وأرعن أطفأت بيدي الشموع المضيئة في حياتي)، وهذا العبث هو الذي يكشف عن المفارقات في تجربته، ويقدم تبريراً للتحولات التي “يرتكبها” بوعي وعن قصد، فهو لا ينتظر أن تجري هذه التحولات طبيعياً ضمن سياق زمني ممتد، وتراكم يؤدي إلى نقلات نوعية في قصيدته، أليست خفة الطائر من مزاياه؟ فلماذا لا يقفز قفزته الحرة ويأتي بالذي عليه أن ينتظره؟، وهكذا قد يظن البعض أن قراءة البدايات المدهشة لعصام أبوزيد في سن مبكرة نسبياً، لا تؤدي بمنطق التنبؤات والقياس إلى ما وصل إليه الآن، كأنما يوجد “عصامان”، لكن الحقيقة أن النبوءات لها شروطها، وهي في جوهرها قوالب تُحجّم المرصود بها، وتقولبه في إطار ما تراه فيه، وما تتوقعه منه، غير أن هناك دائماً نبوءات وسيعة، نبواءت تصف المختار وتترك له في زمنه وفي لحظة مجيئه أن يكون الذي يريده، وأن يبتكر – بما عنده من قدرات- رسالته، وأن يقدم نفسه كما يشاء، وهو ما فعله عصام أبوزيد عبر مجموعاته الأربع: الأولى “النبوءة” 1990، والثانية “ضلوع ناقصة” 1996، والثالثة ” كيف تصنع كتاباً يحققُ أعلى مبيعات”2012، ثم الأخيرة “أكلت ثلاث سمكات وغلبني النوم”.
ما فعله ويفعله عصام أبوزيد أنه لا يراهن على أحد، لا يراهن حتى على نفسه، لا شيء يجبره على أن يكون أسير نبوءة ناقد أو محب، وبالنسبة له لا معنى أن يقول أو يكتب أحد أن عصام أبوزيد سوف يستقر على مقعد مميز في قطار الشعر، لأنه ببساطة وبعناد وعبث عميقين لن يحاول أبو زيد أن يلحق بالقطار، سيفعل شيئاً واحداً، سوف يبتكر لجسده جناحين ويطير أعلى من القطار، حتى لو ظن البعض أن طيرانه إلى أعلى سوف يفصله عن الأرض، ولكن أي أرض؟ أليس الأرض ذاتها تدور بلا توقف؟ فلماذا عليه أن يقبل دورانها من دون أن يضاهيها سرعة؟
حسناً، لنتأمل قليلاً جزءاً من نص في مجموعته الأخيرة ” أكلت ثلاث سمكات وغلبني النوم”، وتحديداً قصيدته “نانا”، لا أدري ربما أكون مخطئاً فيما سوف أسرده، أو ربما أكون واقعاً تحت ظلال التماهي مع النص، لكنني أشعر برعشة حقيقية كلما قرأتها، تلك الرعشة القادمة من اللهاث الذي تعكسه مفردات القصيدة، وحالة الشاعر في رجائه وهو يواجه مصيراً قادماً وخاطفاً، حتى لو كان هذا المصير هو الحب العميق أو الموت العميق في اقتراب الله من روحيهما (الشاعر والحبيبة)، لنقرأ:
(مطرٌ ساخنٌ وغزيرٌ يا نانا
مطرٌ ساخنٌ وكلامٌ كثيرٌ سوفَ يجرح
على ذراعي ترسمينَ قلباً أخضرَ ثم تأكلينَهُ
على قلبي ترسمينَ قلباً آخرَ ثم تأكلينَهُ
توقفي يا نانا
توقفي
اقتربَ الله من أرواحنا كثيراً
اقتربَ الله
أحبُكِ يا نانا… أحبُكْ)
تأمل قوله (أحبُكِ يا نانا… أحبُكْ)، افتح حواسك كاملة للرجفة التي تأتي من الكلمات، أرصد هذه العجلة التي ينطق بها كأنما يلحق به فزع يخافه ويريد قبله أن يقول كلمته الأخيرة، أو كأنما نزل في روحه فرح غامر فتسارعت نبرته في اعتراف الحب(أحبُكِ يا نانا… أحبُكْ). إذاً ما القصيدة إن لم تكن كذلك؟
في قصائده لا يمنحك عصام أبوزيد بطاقة هوية خالصة ويقينية، فلا تطمئن لاعتقاد بأنه وصل محطته، وأن بطاقته تدل عليه، فلا شيء في تجربته يدل عليه غير العاصفة المتغيرة من نص إلى آخر، العاصفة التي تقلب بيوتاً حيناً، وتغرق أخرى في حين ثانٍ، حتى العواصف التي يأتي بها لا تتشابه ولا تكرر نفسها، يدخل قصيدته، يؤسس لها، يبني أعمدتها، ويعزف إيقاعها، ثم في قصيدة أخرى يهدم ما كان قد بناه في غيرها، إنها طفولة الشاعر التي لا تقدس شيئاً غير المتعة في الجديد، متعة الاكتشاف، والبحث عن الكنز في آخر عمق لزرقة المياه، أو كما يهذي جميلاً:( وما زلتُ أشتري حذاءً رياضياً لأصعدَ الجبلَ وأنامَ مع رفاقي/ نحن جئنا من قلبِ مغارةٍ مظلمةٍ ولم يكن ضرورياً أن نخرجَ إلى النور/ أنا خرجتُ لأنني ولدٌ طائشٌ ومجنون).
عصام أبوزيد، هذا الطائش المجنون يقتل نفسه في كل نص، ثم يخرج لنا لسانه في نص آخر بعد أن نكون حسبناه قد كتب نهايته. هذا الطائش المجنون بسبع أرواح، وبرغم ما فعله من سحر بنفسه وبنا، إلا أنني لا أظنه قد خسر حتى الآن روحاً واحدة من أرواحه السبع، فما الذي سيأتي به بعد؟