– آه.. يا عزيز عيني
بعد حين عرفنا من تقصد، لم نكن في حاجة لنسألها عن عزيز عينها الذي تبكيه منذ خمسين عاماً، كان ترتيبه الثاني بين أبنـائها، اختــار لـه أبوه اسـم ” جلال “، خائفة عليه من الحسد تحصنه كل صباح بما تيسر لها حفظه من القرآن، تحذره – حين شب واشتد عوده- من المرور أمام بيت امرأة عجوز عيناها تفلقان الحجر:
– خُد بالك يا ضناي.. خُد بالك.
لكنها لم تنعم بالولد الأبيض الشقي طويلاً، ذات مساء انتفض جسده الصغير بالحمى، كان يبكي وهو غارق في عرقه، تارة يشكو من حرارة تكاد تحرقه كعود شجرة يابس، وتارة يرتجف فتتكوم فوقه الأغطية دون جدوى، وهي كأنما أصابها مس من الجنون:
– رقيتك واسترقيتك من كل عين شافتك ولا صلت على النبي.
وحين شقت ثوبها الأسود الطويل وأهالت التراب على وجهها، انطلق الأب مهرولاً في اتجاه الطبيب الذي لم يجد حيلة سوى النصيحة بالصبر وبالكمادات الباردة وبضع حبوب بيضاء، ثلاث ليال ما بين النوم واليقظة تجلس مخطوفة بجوار سرير الصغير، تمسح عرقه، وتقنعه بالعصائر الفاترة، لكنه كان يذبل بين يديها، وفي آخر ليلة دوتْ صرختها فأيقظتْ قرية بأكملها، انتزع الأب جسد الطفل منها بصعوبة، ولم تقنع بالتهديد والعقاب فذهبتْ وراءه حتى مقبرة العائلة، وهناك أقامتْ على بابها أياماً حتى أعادوها، فلم يشفع لها زوجها ما فعلته وألقى عليها يمين الطلاق.
– كَسّرتْ كلامي وخَرَجَتْ عن طوعي.
ويحاوره أهل الخير.
– اتقِ الله ولا تظلمها.. الفراق صعب والضنى غالي.
– حكايتها صارت على كل لسان.
ومن يومها لم تعد إلى البيت، استقرتْ في غرفة صغيرة ضيقة في بيت زوج ابنتها الكبرى، انطفأ نور عينيها من البكاء والحسرة، كل مساء تصدح بالمراثي وتضمر في عزلتها، من أين حفظت هذا ( العديد) الحزين؟ عدودة بعد أخرى، خيط طويل لا ينتهي من الحزن ، تبدأ نحيبها على صغيرها الذي غاب، يأخذها الإيقاع الجنائزي ” للعدودة ” من حال على حال، من جرح قريب إلى فقد قاس ، تبكي أحوالها، فقدها الابن والزوج:
( يا عمود بيتي والعمود هدوه
يا هل ترى في بيت مين نصبوه؟
يا عمود بيتي والعمود رخام
يا هل ترى في بيت مين اتقام؟ )
وفي الأعياد، في الصباحات المسكونة بالفرح وتقاطر الأطفال في اتجاه طرقات اللعب وأبواب الأهل والجيران، تجر قدميها إلى المقبرة البعيدة، تعرف طريقها مستندة على الجدران، هناك تراها جالسة في ثوبها الأسود الذي لا يفارقها، تخط على التراب بعود صغير مدبب التقطته من سقف غرفتها وتنوح كغراب:
يا عيد عَيّدْ على الجيران وامشي
إحنا الحزانى ولا نعيدشي
يا عيد عَيّدْ على الجيران وروح
إحنا الحزانى وقلبنا مجروح
هكذا، تمضي بها السنوات، غارقة في البكاء، انكسر ظهرها يوم سقط جدار الغرفة فوقها لكنها لم تمتْ، اقتربتْ من التسعين عاماً ولم يبق فيها شيء كما هو إلا صوتها يعلو على أصوات المنتحبات في البكاء على من مات من الأهل، كأنما تنوح على حالها وتستعيد في قلبها ما فقدته، فتوغل في الصياح ويأتي صوتها حاداً ومفزعاً كصفير قطار، تمشي بانحناءة وتقوس ظهرها حتى يكاد وجهها أن يلامس ركبتيها، تقلب عينيها أمامك دون أن تحدد مكانك إذا لزمت الصمت، وعليك إذا سألتها عن الأحوال والصحة أن تحدثها بصوت أوبرالي يهز الغرفة لكنه لا يصلها إلا خافتاً مشوشاً، وحين لا ترد، حين تصمت أمام سؤالك تتركها وفي قلبك تنام الشفقة عليها كجبل عظيم، لكنك لا تكاد تبرح بابها حتى تسمعها تطلق تنهيدتها المشبعة بالموت:
– آه.. يا عزيز عيني.
غراب المراثي
اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا
لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر
ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما
كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم
ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن
وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت