عينان مظلمتان على جسد مهيب

ليموووون
لم يكن ينافسه أحد في لسانه المر الذي يقطر شتائم لأولئك الشياطين الصغار الذين يتبعونه بالغناء الساخر في إيقاع غير منتظم حين يلمحونه وهو يتحسس طريقة بين البيوت الطينية، كنت أعجب من اسمه الذي لم أجد له دلالة شافية، اسمه (نايل)، قلت ربما هو (نائل) واسترح اللسان القروي إلى استبدال الهمزة بالياء، غير أن العجيب ليس اسمه بل ذاكرته التي خزن فيها امتدادات الشوارع وتفرعاتها، وكذلك الدروب الضيقة التي يتوه فيها المبصر لكنه وهو الأعمى لم يخطئ مرة في الدخول و الخروج منها.

ليموووون
جسم فارع الطول مع امتلاء يمنحه ضخامة ومهابة لم ينل منها العمى شيئاً، وعينان واسعتان على الظلمة لا تحسبهما غير مبصرتين إلا حين يرفع رأسه قليلا إلى أعلى فتلمح نظرة بلا هدف، نظرة ربما إلى داخله ليرى عبر بصيرته ويخمن ملامح وجهك من صوتك
ليموووون
يقولها بصوت مرتفع وبنغمة خاصة ذات جمال وعذوبة، لا يرددها إلا حين يشعر بأن ثمة من يجلس أمام البيوت، أو ثمة من يمر إلى جواره، يد تمسك بالعصا الغليظة المقطوعة منذ زمن من شجرة صفصاف قديمة، ويد أخرى نائمة في جيب جلبابه المنتفخ بحبات الليمون، يستوقفه الرجال والنساء العجائز للشراء، فيجادلهم بغيظ حين يدب الخلاف على عدد حبات الليمون التي يخرجها من جيبه ببطء لا يزيدهم حبة ولا يرفضون بضاعته، بينه وبين الناس هذا المزاح الثقيل كميثاق علاقة، إن غاب يوماً وتوعك أحدهم بصداع أو ضربة شمس قصدوا بيته بحثاً عن ليموناته الشافية.
لم يسأله الذين أحبوه من أين يأتي بالليمون ليمضي به في الشوارع منادياً: ليموووون ؟ ولماذا لم يختر بضاعة أخرى أكثر ربحاً؟
ظل نايل وفياً لملمس الليمون في جيبه، وفياً لهذه الرائحة التي يعطر بها الطرقات المتربة، عصياً كان على الفهم، غامضاً في مواعيده الصارمة، لا يكاد عقرب الساعة يشير إلى الرابعة عصراً حتى يبدأ رحلته قاطعاً القرية من أولها إلى آخرها، يدفع عنه الأطفال العابثين ويضحك من قلبه إذا داعبه أحدهم بسؤال عن الحب والنساء، وهو الأب الذي ربى أولاده على العمل منذ نعومة أظافرهم، لم يقنع بجلوسهم على طاولات الدراسة وتحت وطأة الظروف وقلة الحاجة ألقى بهم في الحقول عمالاً يزرعون ويحرثون لغيرهم ويعودون في نهاية اليوم بالقليل من المال حتى شبوا وعلى أياديهم طبقات من الجلد الميت، وحين نبتت شواربهم ذهبوا وراء الرزق هنا وهناك.
ليموووون
لا تزال الكلمة في إيقاعها القديم تدل عليه وحده، كأنما لصوته هذا النشيج السحري الذي يتغلغل في الروح، قريبة نبراته من تواشيح المساءات الباردة في باحات المساجد الصغيرة، لكننا لم نره أبداً يدخل مسجداً للصلاة أو يرفع صوته بالأذان، لم نره يدير أصابعه الغليظة على مسبحة، كان محاصراً في عالمه الضيق، ورغم جسده الضخم الذي تعلوه عينان مظلمتان، كنا نراه في طفولتنا فنحسبه شجرة جميز عتيقة تمشي على قدمين، ونتذكره الآن خارجاً من بطن الحرافيش، و مائة عام من العزلة، وحيداً غريباً غامضاً ومتبوعاً بحكايات عن خطوته الواسعة، نتذكره الآن بالخوف الطفولي ذاته من غضبه، ذلك الخوف الذي أهدانا إياه بسطاء القرية قائلين بصوت خفيض: إنه الولي الطيب، القادر بمشيئة الله على الدعاء علينا بالأذى والضر.
ليموووون
الآن في الذاكرة وخلف الصوت العابر جبال من الوقت والثلج، ثمة رائحة لم تفسدها المدن وتذاكر الطائرات والشوارع الإسفلتية، تلك الرائحة لحبات الليمون الصغيرة المقطوعة من شجر مجهول.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

الغرفة رقم 8

المقالة التالية

الحصار الأبيض

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم

أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت