عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم يتفوه بكلمة جارحة، وجهه البيضاوي وقامته المشدودة وعمامته الملتفة حول رأسه، دلائل لا تخطئها العين على كونه من قرية بعيدة، يغادرها صباحاً على حمارته العرجاء، قاطعاً مسافات طويلة، منادياً أمام البيوت على أصحابها، منادياً بأسماء الأبناء البكر دون أن تلتبس عليه الأماكن والوجوه
عم فايز
هذا اسمه الذي لم نعرف غيره، اسمه الذي كان يقض مضاجعنا ويخطف أحلامنا حين كانت طفولتنا معجونة بالشقاوة والعناد والهروب بعيداً عن المقص الذي ينزع عن رؤوسنا الشعر المنتفخ بالزيت والغبار.


كنا مسكونين بصورة عبد الحليم وشعره الطويل وتسريحته، وغارقين في تقليد نجوم الكرة ممن طالت شعورهم حتى أكتافهم، ولم يكن يحرمنا من هذا الهوس سوى تأنيب الأب والجدِّ.. ومقص فايز الذي يمرح في رؤوسنا فتلتصق الشعرات المتساقطة بدموعنا دون أن نحرك ساكناً خوفاً من العصا والحرمان من المصروف.
فايز كان العفريت الذي يحرث خصلات الشعر ويتركها في زاوية من المكان ويمضي، كان الرجل الوحيد الذي تنحني أمامه رأس كبيرنا، فنضحك في سرّنا ونتغامز حين نرى صلعة العجوز، كان الوحيد الذي يحق له أن يلمس شارب الجَدِّ المهيب دون أن يموت خوفاً، وكنا صغاراً ساذجين نكرهه ونتمنى ألا يأتي أبداً، نتمنى أن تتعثر به حمارته العرجاء فيقع على رأسه ويموت
كان فايز طيباً لا يستحق دعواتنا الشريرة عليه، ولم تغفر له طيبته والحلوى التي يملأ بها جيبه ليروضنا، لم نغفر له يوماً سرقة أحلامنا بشعر طويل وتسريحة تشبه أولئك الذين كنا نعلق صورهم على الجدران الطينية.
دائماً كان يجيء بعد الظهر بقليل
دائماً كان يصل البيت حين يدق جرس المدرسة فنغادرها فرحين، لكن قلوبنا تنقبض لحظة نرى الحمارة العرجاء مربوطة في شجرة الصفصاف أمام البيت، نعرف أنه في مجلس الرجال، وأن مقصه يدور الآن في رأس وشارب الأب والجدّ، وأننا واقعون في الفخ لا محالة، نقدم رجلاً ونؤخر أخرى، نختبئ في الحقل المجاور، نمشي على أطراف أصابعنا، لكن بعد قليل يرتفع صوت الأب منادياً، كاشفاً حيلتنا الصغيرة، نطل برؤوسنا من بين أعواد الذرة والقمح، ونستسلم في حقد وضغينة، نبكي فينهرنا الجدّ بنظرة من عينين حادتين كالصقر، يداعبنا الحلاق فلا نطيق دعابته، ولا طبقه الصغير المغطى بالصدأ وببقايا الصابون الرخيص، تميل أعناقنا قليلاً فتجري ماكينة الحلاقة بلا هوادة، ومن بعدها المقص، ومن بعده الموس الحاد، وبين الحين والآخر تمتد أصابعنا مرتعشة لتتحسس ما بقي من شعر هناك في الأعلى، فنحس بالخيبة، ونرفع نهنهة البكاء، فيأتي التحذير من الخلف: هاااا.. وبعدين، نصمت ونبتلع دموعنا خوفاً من العصا التي تتراقص في يد العجوز المهيب.
– خلاص.. نعيماً.
يقولها فايز وهو ينفض بقايا الشعر عن الرأس الذي بدا مثل كرة ملساء، نفلت من الجلوس أمامه ناقمين عليه، ونصب غضبنا على حمارته العرجاء، فنطلق سراحها وندفعها بعيداً حتى يمشي على قدميه طويلاً باحثاً عنها، خائفين نلوذ بالأم، فتضم أحزاننا ضاحكة، وفي الصباح حين نمضي على الطريق في اتجاه المدرسة نخفي رؤوسنا الحليقة تحت الطاقية متعللين بالبرد، حجة واهية تثير الضحك حين نرفعها على باب المدرسة فيسخر أولئك الصغار الذين أفلتوا بالأمس من مقص فايز.
كان طيباً وهادئاً حتى آخر يوم رأيته فيه، ذلك اليوم الذي ذهبت إليه بقدمي ملقياً عليه السلام، وسائلاً إياه عن حمارته العرجاء، فأخبرني بنبرة حزن عن موتها، وعن قلة من يقصدونه بعد أن عرف كثيرون دكاكين الحلاقين في المدن، ورمقني بنظرة وهو يتمتم على إيقاع المقص:
– راحت علينا يا باشمهندس.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

أبو الأيتام

المقالة التالية

ثمن الخطايا

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت

بعض ما قالته العجوز

كان القطار يزعق كقتيل ظامئ وهو يأكل المسافات هابطاً من الشمال إلى الجنوب، والشمس مختنقة بلا