عفريت الجبل الغربي

– يا الله.. أهذا هو ” خُط الصعيد” الذي بث الرعب في قلوبنا؟
كدت لا أصدق أنني وجهاً لوجه أمام خط الصعيد الذي طاردته أجهزة الأمن شهوراً بطائرات الهيلوكبتر والعربات المصفحة حتى أمسكت به قبل أن تفقد هيبتها.
في قرية ” القرامطة” التقيت بزوجتيه وابنه، إضافة إلى حكايات بلا حصر على لسان شيخ الغفراء، وفي سجن ” ليمان طره” حاورته لساعة متصلة، وفي مكتب محاميه استمعت إلى تفاصيل التحقيق معه، وحملت معي ملف قضيته الذي تزيد صفحاته عن ثلاثمائة ورقة أضعته يوماً في التنقل من سكن لآخر.

هو( شعيب) ذاته الذي رفض مقابلتي في زيارتي الأولى إلى السجن دون سبب مما جعلني أسافر 700 كيلومتر بالقطار في اتجاه جنوب مصر بحثاً عن قريته النائمة أسفل جبل شاهق، وهناك التقيت زوجته الأولى التي تكبره بثلاثين عاماً، وزوجته الثانية الشابة التي رزق منهل بطفل سماه (حميدة)، يومها عدت بحصيلة وفيرة من الحكايات والصور، وعاودت طلب مقابلته ثانية، وأنا أخبئ كلمة السر التي ستجعله يوافق هذه المرة.
– سألني مأمور السجن: ألم يرفض مقابلتك من قبل ؟
– ابتسمت في ثقة: نعم رفض لكنه سيوافق اليوم
– أنت تعلم أنه ليس من حقي دفعه غصباً لمقابلتك
– أعرف ولكن كل ما أرجو أن ترسل إليه أحداً يخبره أنني أحمل له رسالة من ابنه( حميدة )
تجاهلت علامة الاستفهام والدهشة على وجه المأمور الذي قطب جبينه فكاد النسر الراقد على كتفه يقفز باتجاهي، أشار إلى أحد الضباط:
– هات شعيب
وبعد خمس دقائق كان الضابط يدخل وبرفقته الرجل الذي حيرني
– يا الله أهذا هو الذي بث الرعب في قلوبنا ؟
مضت أكثر من خمسة عشر عاماً منذ أن أخذت قطار الثانية عشرة ظهراً، حاملاً حقيبة يد صغيرة يرقد داخلها جهاز كاسيت وكاميرا ودفتر ملاحظات، كنت راغباً في الحصول على شيء من أسرته لأقنعه بالحديث، وكنت مدفوعاً بتتبع الظروف والأسباب التي جعلته يخرج على القانون ويصبح مصدراً لفزع الناس وغضب الشرطة، كنت أريد معرفة أول خطوة خطاها على طريق الجريمة.
بعد 7 ساعات ونصف توقف القطار في سوهاج، نمت ليلتي في فندق حرمني من النوم فيه صوت شجار في الغرفة المجاورة، وفي الثامنة صباحاً كانت السيارة تقطع الطريق الترابي باتجاه قرية ” القرامطة” وقبل أن تتراءى البيوت الطينية بقليل التفت ناحيتي السائق قائلاً:
– انزل هنا
اتسعت عيناي كأنني لم أفهم أو فهمت ولم أقتنع فبادرني ثانية:
– العمر غالي يا بيه
خائفاً أنزلني سائق سيارة الأجرة على أطراف القرية، وعاد أدراجه تاركاً عيني معلقتين بسحابة التراب التي أطلقتها السيارة خلفها.
قطعت الطريق إلى القرية متوجساً، وفي ذاكرتي ما سمعته عن قرية القرامطة، عن المرأة التي أخذت بثأر زوجها ثلاث مرات، عن الرصاص الطائش القادم من الحقول الملتفة حول الطريق كثعبان، عن القتل بأعصاب باردة في وضح النهار.
– العمر غالي يا بيه
قالها السائق ومضى لحال سبيله، والصبي الذي قابلني على مدخل القرية لم يطمئن لي فوضع طرف ثوبه في فمه وانطلق جرياً، تمتمت ببعض آيات من القرآن الكريم، خطواتي بطيئة وقدماي ثقيلتان وكأنهما معبأتان بالرمال، فجأة ظهر أمامي الصبي الذي جرى قبل قليل وبجواره رجل على مشارف الخمسين يرتدي جلباباً أبيض وعمامة رمادية، وفي يده عصا طويلة، قطع علي الطريق بصوت غليظ
– السلام عليكو
رددت عليه السلام وسألته عن دوار العمدة فجاء صوته كطبل قديم:
– أي خدمة أنا شيخ الغفر.. مين حضرتك ولا مؤاخذة
اطمأن قلبي وخفت قدماي من ثقلهما، وشرحت له غايتي وهدفي فصافحني بيد خشنة، ودعاني إلى بيته لشرب الشاي:
– وبعدين نشوف اللي أنت عايزه
وفي غرفة الضيوف جلست قبالته أحدثه عن شعيب، وأسأله عما يعرفه فيجيب مدعياً خبرة أمنية، وكفاءة لا يقدرها مرؤوسوه هناك في مديرية الأمن، أما ضوء فلاش الكاميرا فقد جعله هادئاً وأليفاً، وأنا أعده بصورة وتعليق لائق بخبراته.
– العمر غالي يا بيه
قلت لشيخ الغفراء في قرية القرامطة ما قاله لي سائق الأجرة الذي فر هارباً، فضحك حتى كشف عن لثته وأسنانه المتآكلة:
– لا تصدق الأمن هنا مستتب
قالها وكأن العبارة في جيبه نائمة منذ 100 عام، ثم أضاف جازماً:
– أسرة شعيب يا بيه ملعونة ومطاريد أبا عن جد
– قلت بهدوء: أستأذنك.. سأذهب إليهم
– قال بحدة: لا.. سيحضرون هم إليك
وأشار برأسه إلى الصبي ذاته فوضع طرف ثوبه في فمه وانطلق مسرعاً، فيما كان شيخ الغفراء يحثني على التقاط المزيد من الصور له فأطاوعه بحرص، وأمام إلحاحه أغلقت عدسة الكاميرا، واكتفيت بتشغيل الفلاش لكن حيلتي لم تنقذني من حكاياته.
صبرت مجبوراً على الاستماع إلى جبرتي القرامطة الذي يدعي المعرفة، ويصدر الأحكام بلا خجل، وحين جاءت زوجة شعيب الأولى، تلك المرأة العجوز الضامرة، رأيت في وجهها قسوة غريبة، وبدت في عينيها نظرة ترقب، وخيل إلى أنها تتوجس خيفة من هذا الأفندي، ولعلها ظنت أن الأمر له علاقة بالشرطة، خاصة وأن حدة شيخ الغفراء أشعلت الجلسة توتراً، حاولت تهدئتها حتى اطمأنت بعد تفسير وشرح ، وبعد قليل حضرت زوجته الثانية وبرفقتها ابنها (حميدة)، فالتقطت لهم صوراً واستمعت إلى إجاباتهم، وأطلقت بعدها ساقاي للريح بعيداً عن شيخ الغفراء، وبعيداً عن المكان، وفي أذني ترن كلمات سائق التاكسي:” العمر غالي يا بيه”.
– يا الله أهذا هو الذي بث الرعب في قلوبنا ؟
وقف “شعيب” بجوار الضابط مستكيناً، قصير القامة ممتلئ كأنه جوال قطن، على رأسه عمامة ضخمة تخفي جبهته، عيناه الضيقتان زائغتان ومسكونتان بحزن قديم، أحسست أنه صقر مقطوع الجناحين فقد قدرته على الطيران منذ زمن، جلبابه الرمادي بدا أن يداً غير مدربة غسلته في عجالة.
استقبلته مبتسماً ومصافحاً، تجاهلت القشعريرة التي عبرت جسدي لحظة وقعت يدي في يده، أشرت إليه بالجلوس فألقى بنظرة متسائلة إلى مأمور السجن، في تلك الأثناء كان النسر على كتفه مسالماً فهز المأمور رأسه بالموافقة، وأمعن في ضيافته طالباً لنا كوبين من عصير الليمون، لم يكن مثلجاً فاكتفينا بهواء المروحة ذات الصوت المتحشرج القابعة في الركن كحارس لا يتوقف عن الضجيج.
– ابنك “حميدة” يسلم عليك.
كنت كمن ألقى في قلبه كرة ملتهبةمن النار، فتحرك على طرف المقعد متحفزاً، ورمقني بنظرة لا تزال حاضرة في ذاكرتي رغم خمسة عشر عاماً مضت على زمنها، كان ضعيفاً ومقهوراً ومنكسراً إلى حد يثير الشفقة، هذا الخارج على القانون، هذا الذي روع الشرطة والناس، وأيقظ مخاوفهم فأغلقوا بيوتهم كلما زحف الليل، هاهو يتلمس خبراً صغيراً عن ابنه وزوجتيه.
ولد ” شعيب”لأب فقير، وفي صباه عرف سرقة الفواكه والخضراوات، كان حين يقرصه الجوع يذهب إلى الحقول في أطراف القرية ملتهماً بعض حبات الخيار، أو مهشماً بطيخة على ركبته آكلاً من بياضها أو احمرارها حتى تشبع عصافير بطنه وتصمت، ولم يكن عقابه- حين يكتشف أصحاب الحقول أمره- يزيد عن علقة ساخنة تنتهي غالباً بصفعتين على الوجه مع تحذير بعقاب أشد إذا عاود فعله ثانية، ولأن الجوع كافر كما كان يهمس لنفسه، عاود السرقة مرات كثيرة، حتى تزوج وهو في السابعة عشرة من أرملة تكبره بثلاثين عاماً، لم تكن أرملة لرجل عادي مات على سريره، بل كان من أعتى الخارجين على القانون في الصعيد الجواني كما يقولون، وحين قتل زوجها في مواجهة مع الشرطة عادت إلى قريتها ” القرامطة” لتتزوج من ” شعيب” ابن السابعة عشرة وعلى يديها يتحول بعد سنوات إلى ” خُط صعيد آخر”.
تحت رعايتها أيضاً تحول الصبي من سرقة الخضراوات والفواكه إلى سرقة “ما خف وزنه وغلا ثمنه”، ولم تعد عصافير بطنه هي التي تحركه تجاه السرقة، لقد أصبحت لجيوبه الفارغة عصافير لا تقنع بالخيار والبطيخ، بل تنشد الأوراق المالية من فئة عشرة جنيهات فما فوق.
ذات مرة سرق شعيب ماكينة ري غفل عنها صاحبها لكنه عرف سارقه فأبلغ عنه العمدة واقتيد غصباً إلى قسم شرطة المركز، وهناك في الزنزانة الضيقة المحشوة كعلبة سردين باللصوص تغير شعيب كلياً، وبفعل إهانة جارحة لشرفه كرجل قام بها الضابط على الملأ، تحطمت روح الصبي وكبرت في داخله رغبة الانتقام، وعندما أخلي سبيله كانت عائلته قد دخلت في خصومة ثأرية مع إحدى العائلات، وبرفقة عمه ونفر من أقربائه مضى في طريقه إلى حقول القصب وبطن الجبل الغربي، وصارت غاراته الليلية على القرى المجاورة سرقة ونهباً وترويعاً، فوجد الناس فيه ضالتهم لنسج الحكايات المسائية، وحاز بجدارة على لقب ( خُط الصعيد•• عفريت الجبل الغربي).
-أنا زعلان من الصحافة..
قالها لي حين عرف بمهمتي، وبعد أن رويت له عن مقابلتي لزوجتيه وابنه، قالها شعيب لأنه كان غاضباً من التهويل، من العناوين التي صنعت أسطورته وضخمت جرائمه، وأضاف في حزن:
– شعيب سرق.. شعيب قتل خمسة.. شعيب خُط الصعيد.. الصحافة ظلمتني والناس صدقوها..نص اللي كتبته الصحافة محصلش.. حرام عليكم.
الآن وأنا أروي له تفاصيل لقائي بزوجته وابنه بدا ضعيفاً بفعل مشاعره الراقدة تحت غبار ثقيل من القسوة، ولا تملك وأنت تراه منكسراً إلا أن تدير عينيك قليلاً عنه فيما تحترق أعصابك وأنت تبحث عن سر هذا التناقض في مشاعرك تجاه شخص مذنب يستحق العقاب على ما فعله.
– اشرب الليمون..

يمسك بالكوب وينظر إلى مأمور السجن مستأذناً في الشرب، طاعة إلى حد الخوف، وخوف كان بالأمس خروجاً معلناً على القانون، الآن يثني الضباط على التزامه، وانضباطه في حبسه الانفرادي الطويل، هذا الذي وصفته الصحافة الفرنسية بـ ( روبن هود الصعيد)، هذا الذي دفع الآباء إلى غلق بيوتهم على بناتهم بعد السابعة مساء، لا يعيش وحده في حبسه الانفرادي بل استأذن إدارة السجن في اصطحاب ( قط) أليف ليشاركه وحدته، رآه ذات مرة في فناء السجن فقرر أن يأخذه صديقاً، يطعمه من طعامه القليل، ويحدثه بصوت عال إذا غلبه الحنين إلى وجه ما.
ابتسم المأمور نصف ابتسامة حين كان يتحدث شعيب عن صديقه ( القط )، وفي لحظة فاصلة ما بين الحكي والصمت أجهش بالبكاء، امتلأت عيناه بالدموع واستأذن في الانصراف، تركته بعد أن وعدته بزيارة قريبة، قلت له سأزورك دون كاسيت أو كاميرا أو دفتر ملاحظات، كان وعداً من إنسان لإنسان آخر ليس بينهما شيء سوى هذا الشعور الذي ينتابك ساعة تواجه الضعف الإنساني صاعقاً يزلزل كيانك.
أكثر من خمسة عشر عاماً مضت على وعد قطعته تحت وطأة إحساس غريب، ولايزال الوعد معلقاً في رقبتي، لا أعرف هل لا يزال شعيب حياً؟ هل أفرج عنه لانتهاء فترة العقوبة أم لانضباطه وسلوكه الحسن، أم لا تزال التوصية الملحقة بملفه حائلاً بينه وبين الحرية، ثمة ورقة مانعة وقاطعة توصي بعدم الإفراج عنه تقول: (خطر على الأمن العام).

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

أرق النموذج

المقالة التالية

خطوط مائلة على غبار الزجاج

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم

أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت