“عـالم ثـاني”

يده في الريح إذا تحركت أمطرت سماؤه، وإذا سكنت أصابعه كان جوهر المعنى حاضراً، لأن سكون روحه عاصفة، بركان حياة. في جمر ناره جنات وجنيات.
تراه فتحسبه  حيناً غيمة نزلت إلى الأرض، تمطر على ورق وشجر، وحيناً تحسبه عصفور نار يحرق ما جف أو يكاد، ذلك أن جناحيه لا يطيران إلا في هواء جديد.
يقول هذا أنا، هذه لغتي، ودمائي لا تصعد إلا ما يظنه الآخرون مغلقاً وجنوناً. هذا أنا، طفل الجنون والمغامرة، لم أكن أخاف الثعابين والثعالب، وكنت أخاف التكرار، كلما رأيت مكرراَ بكيتُ وقلتً: كيف يستريح الناسخ في ثوب المنسوخ؟ كيف لشاعر أن يقلد نجمة ولا يبتكر سماء ونجوماً؟ كيف لروائي أن ينزل البحر ولا يدعو البحر لشرفته؟
” كان يوماً
رأيت البحر يتجول في المدينة
وعندما قرر الرجوع إلى الماء
نسى موجة على شرفتي
استحممتُ بها عاماً
ثم تبخرنا معاً” 
هو ذاته الذي تبخر مع موجة، عاد ليكون بحراً تجري فوقه سفنٌ، وتسبح فيه حوريات. قصيدته اسمه، عالم ثانٍ لا يشبه غير روحه، كأنما يلتقط تفاصيله بعين ثالثة، ثم يضعها على سرير لغته، لغة بسيطة كأمومة الأبجدية، وعميقة كجرح يصل القلب. هو ذاته الذي تسبق خطوته فجاءة الرحيل، لأنه كلما قرر أن يرحل إلى المغاير اكتشف نبوءة قدميه
ماذا فعلتُ بالموتِ؟
لاشيء
سوى أنني كنتُ مسرعاً إليه
فصدمتُ ملاكاً في طريقي
كنتُ قد حللتُ زمناً على ضفاف الخليج، أسمعٌ وأرى، وأتبعُ بدهشة مدناً من قصائد ومقاصد أرواح  تجرب ُ وتكتبُ، قلتُ: هذه معرفة بعد جهلٍ، هذا خليجٌ غير ما قالوا إنه رمل ونفط. رحتُ خلف ” ثاني” كما رحتُ خلف غيره: عادل خزام، عبد العزيز جاسم، ميسون صقر. كنتُ أتنقلُ ببطء  ومتعة من شجر إلى شجر، أجلسُ على غصن هنا وهناك، أتأمل مغارات وقعتُ أمام أبوابها أعمى ينشد قمصان أصحابها، وأحسب أن خلفها كنوزاً ستملأ جيوب روحي، أقول في كل مرة أود بصراً وبصيرة: افتح يا ثاني، افتح يا خزام، افتح يا جاسم، افتحي يا ميسون، وكانت الأبواب إذا نطقتُ بكل اسم تنفتح على كل كنوز كل اسم، وكان باب ” ثاني” باباً لعالم آخر
أعترف أن ظلّي لا يدخل منزلي
ثيابي وحدها تدخل فقط
مع هذا أخلعها لتبقى عارية من الجسد
وحين تأتي حبيبتي
أخلع منزلي مني
وأترك الثياب تقرأ ألوانها
خطوة بعد أخرى، نصاً بعد آخر، دخلتُ مغارته، قرأته شاعراً وروائياً، وعرفتُ طفولة روحه، اختبرتُ كيف تمشي الغيمة على قدمين، كيف يكون لها وجه واسم، إذا أحب أمطر برفقٍ، وإذا غضب في المحبة أمطر عاصفة تهزُ ولا تقتلُ. لقلبه يدان تغسلان المحن، ولجنونه أجنحة لا تقف عند حد. كتب روايته اليتيمة ” الديزل” فعطل قطارات من تتكاثر رواياتهم، وبقى قطاره يصعدً من لغة إلى لغة، ومن زمن إلى زمن.
مهد السويدي أرضه بمجموعته الشعرية الأولى ” ليجف ريق البحر” عام 1990، ورسم خريطة عالمه وحدوده بمجموعته الثانية “الأشياء تمر” عام 2000، وأعلن عن قيام مملكته الروائية ببيان واحد حمل اسم ” الديزل” عام 1994، وكان بياناً صادماً، جريئاً في فكرته، مدهشاً في بنائه السردي، بعدها دخل السويدي في صمت عميق،  ذلك الصمت الذي يضج بالتجارب الإنسانية والترحال بعيداً كلما لاح له أفق مكان لم تطأه قدماه، هوسٌ من روح رامبو، شغفٌ بقصائد من دم ولحم.
إنه عالم ” ثاني”، حياته قصائد وروايات هادرة يعيشها متوتراً بالوقت، هارباً من رتابة الأماكن والوجوه، متنقلاً خلف روحه، تابعاً لها ومتبوعاً بلهاث العمر الذي قد لا يكفيه، لأن حياة واحدة لا تتسع لعالم “ثاني”
  
مقال ( كاريكاتيزما ) مجلة الصدى – 31 يوليو 2011

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

سيدة الحزن الجميل

المقالة التالية

المسحراتي

اخر المقالات من تحت ظلال الآلهة

سارقُ النار

لا لغة تقدر أن تكون الريح إذا شاءت أن تصف الريح إلا إذا كان كاتبها عاصفة،

العبقري

  كان غبار القرى لا يزال رائحة قميصه حين كانت تتكرر مصادفات المصعد في المبنى الزجاجي،

ما أجمل ضحاياك

قبله هل كان الشعر يمشي على الأرض؟ قبله لم يكن للشعر قدمان، كان له أجنحة لا

من يكره فيروز؟

  أنا أكره فيروز طاوعه لسانه وقلبه مرة ونطق بها، تورط في غضبة الغيرة، ولم يكن