فجأة امتلأت بهم غرف القلب، وازدحمت بأصواتهم ذاكرة متعبة، كنت قد ظننت أن لا أحد هنا أو هناك، لا أحد يذكر هذا القروي يوم كان يحلم لا بشقة وسيعة أو سيارة فارهة، فقط بامرأة وقصيدة. كنت قد أغلقت الباب، وجررت قدمي إلى الداخل، مرابضاً على تلة مجروحة، ناظراً إلى سنوات العمر الغارقة تحت رمل يتحرك، وأرض تدور، فإذا بهم يطرقون خشب القلب برقة ولطف، نقر خفيف على حواف الروح: افتح، افتح لنا، نحن معك، جئناك بما كنت عليه، افتح لتذكرنا فتذكر نفسك، افتح ولا تخف، مد يدك واشرب من محبتنا
هؤلاء الأصدقاء والصديقات الذين عادوا إلى شجرة قديمة اسمها من اسمي، أحاطوني بالدفء، وغمروني بالمودة، وقلقوا حين استيقظوا من أحلام كنت فيها حاضراً ولو بصمت وحزن، وهنا وصف حال أمام حلول الصديقات.. وعذراً للأصدقاء
تاء: سيدة ابتسامتها، لا تكف عن الفرح، ولا تحب أقفاص العصافير لو من ذهب، تقول: من يحب العصافير مثل الله؟ تطلق على كل شيء اسماً وتخاطبه، صندوق الورق يصبح كائناً يُنادى عليه بالاسم فيجيء، كنت جالساً في ليلتي الأولى في دبي، مدينة جديدة على روحي، كنت قلقاً كطفل متروك عن عمد، متروك لقدر وحياة ومصير، وهاتفي الميت مقبور في جيبي، مجرد آلة صغيرة خرساء، لكنه الآن يرن، هاتفي الميت في ليلتي الأولى يرن، أنظر إلى وجه الهاتف، وأهز رأسي عجباً، أنت إذن أيتها الصديقة، أنت إذن تغريدين في هذا الليل، خاطر – قالت – دفعني الليلة للسؤال عنكَ. هكذا يبقى سؤالها رحمة، ويظل صوتها مقروناً بليلة كان كل شيء فيها قبل اتصالها منزوع الرحمة
راء: غيمة شقراء من جوهانسبرج، غيمة في الثانية والعشرين من عمرها، جاءت أبوظبي وغادرتها قبل أكثر من ثلاثة أعوام، حين عرفتها في جمالها البريء، كانت تخبيء في حقيبتها عشرة طيور من النورس وشجرتين من حديقة البيت البعيد، حزينة كنغمة في آخر الليل، تخزن في عينيها البكاء والحكايات. التي غادرت بعد مودة، ذهبت بعيداً في قطار الحياة، سنوات حتى جاءت رسالتها تسأل، ثم جاء صوتها يفسر زمن السؤال، قالت التي تمطر محبة لأمها: أحلم بك كثيراً منذ شهر، رأيتك حائراً كعصفوري الأزرق الذي يضرب بجناحيه حين يضيق به الحال، لا أعرف لماذا بعد ثلاث سنوات تجيئني في الحلم حزيناً؟
دال: عن قصد ألقيت فوقها مئات السحب والغيوم، اختفت في حزنها، ولم تشرق في سماء أخرى، كانت سمائي لغيرها، وكانت هي من بعيد تنتظر، وتأمل، وتحلم أن يفتح الغامض ما أغلقه في وجهها، ذهبت إلى بلاد الثلج، احتمت بالأهل، واكتفت بالسؤال كل حين، ثم غرقت في الصمت حين أغرقتها في العتمة، مضت سنوات حتى أشرقت بعد غياب، بعد نفي متعمد، عادت في أسبوع العائدين لتسأل: لماذا أنا خائفة وأتذكرك بقلق؟ عادت لتقول في جزع لم أتوقعه: اسألني أجيبك، وضع أحمالك على كتفي
حاء: عشر سنوات، وربما أكثر ببضعة شهور، فصل بيننا الوقت، واتسعت المسافة، لكنها بقيت في سراديب الذاكرة، بقيت رائحة عطر كان هديتها الأولى والأخيرة، بقي تمردها الصاخب، وجرأة عقلها، وصداقتها الجميلة المحفوفة بمخاطر الحب، لكن من يجرؤ على تخطي عتبة ابتسامتها ورقتها بكلمة أو طرف عين، عادت لتتسلق شجرة الروح مثل قطة مشاكسة، عبرت بحر الإميل لتلقي السلام، وتسرد تفاصيل الأماكن القديمة، عادت بصراحتها الصادمة، لتقول: لا أعرف لماذا أكتب إليك، عادت لتتحدث عن آخر رواية لم يقرأها أحد قبلها، وكتابها الذي لم يكتمل بعد، عادت لتروي عن الخوف من الموت، عن الروح التي يضيع اطمئنانها في العادي والمكرر، عادت في أسبوع العائدين لتسألني نهاية للغربة والسفر، وتعدني بمكافأة مجزية: ساندويتش فول وطعمية ونزهة على الكورنيش
ميم: أجردها من الألقاب، لأن الصداقة أعمق، والسنوات التي تخطفتنا، هي سنواتنا الأجمل، جنوننا وراء القصيدة المراوغة، الهوس بالقراءة، وتدبير الحال دون شكوى، طالما أننا نحتفظ للوهج في القلب بجمرات الكتابة والحلم. تعود هي في أسبوع العائدات بعد أكثر من عشرين عاماً لتسأل عن صاحبها، وأعود لألتمس في صوتها الحميم دفء السنوات التي تصرخ عارية تحت ثلج كثيف، ألتمس في صدقها ما تقوله عن صديقها القديم، خجل عميق حين نسمع من يصفنا، حزن جارف حين أشعر وكأنها تتحدث عن آخر لا صلة لي به. تعود الشاعرة بصوتها ضوءاً في زمن كنت أبحث في رماده عن جمرة واحدة في رمادي