هادئاً، خطواته على الطريق الترابي لا تترك خلفه سحابة غبار..
طيباً، لا يعرف القسوة ولا تكتسي ملامح وجهه إلا بابتسامة ووقار، حين يرقبه الصبية قادماً من بعيد، من طرف القرية النائي قاصداً المسجد الطيني لخطبة وصلاة الجمعة، يفسحون له الطريق محملقين في جلبابه وعمامته فيبتسم لطفولتهم ملقياً عليهم سلاماً طيباً فيتحمسون في الرد حتى يصرخ بعضهم بصوت كالصفير ” السلام ورحمة الله وبركاته ” طامعين في الرضا وفرحين بالرد على الشيخ الإمام.
في رمضان يصبح إفطاره وسحوره اليومي موزعاً على بيوت العائلة، وما بينهما من الوقت ينقضي في مجلس العائلة ما بين الوعظ وقراءة القرآن وأكواب الشاي التي تدور رحاها بلا ملل، يجهز له الناس مقعده والميكروفون الممدودة أسلاكه حتى أطراف بطارية متهالكة يرجها صاحبها حين تخور قواها حتى لا يفقد سمعته وأجرته آخر الليل، يهمهم الشيخ بالأدعية والأحاديث ويمد يده إلى جيب خلف قفطانه الأزهري ليخرج كتاباً باهت اللون ويقرأ خطبته المسائية عن فضل صيام رمضان، وبعد أيام تتداخل التواريخ والمواعظ ويتجاوز المناسبة حسب ما تقع عليه عيناه في الكتاب من فضل صيام رمضان، إلى الإسراء والمعراج، إلى فريضة الحج، نهاية بعذاب القبر
كان لصوته أثر لا يذهب إلا حين تدخل الأجساد والأرواح في النوم، تتبعه العيون حين يميل يساراً ويميناً وتتهدج نبراته بالبكاء، فيهتز الجالسون تأثراً: ” الله ينوّر عليــك يا شيخ”.. ” بارك الله فيك”.. ” اللهم تقبل “، أما الذي يحرس بطاريته المهترئة فلا يكف عن مراقبة أسلاكها خائفاً أن ينقطع الصوت فيصب المندمجون لعناتهم عليه وحده
لم يكن ثمة كهرباء ومصابيح معلقة في السقف، كان الضوء موزعاً بعناية عبر توزيع لمبات الجاز والكلوبات التي تأكل الفراشات بنهم، فيما كان السقا العجوز يدور بصواني الماء والشاي رافعاً جلبابه حتى ركبتيه بحزام حول خصره، حزام جلدي مهترئ ربما وجده ذات يوم ملقى أمام بيت أو مدرسة.
لم يكن الصبي الذي تجاوز العاشرة غائباً عن ليالي الشيخ الإمام، كان يذهب خلف أبيه ممسكاً بعصا صغيرة، وداساً في جيبه ورقة كتب عليها قصيدة ” نهج البردة” نقلها من كتاب النصوص راغباً في فرصة تأتيه ذات ليلة أمام الميكروفون، هامساً لأمه وأخوته أن ينصتوا لصوته حين يخترق صمت القرية، يجلس الصغير في مجلس الكبار مبهوراً بالإمام وصوته، وكتابه الذي اهترأ غلافه وذهب لونه، يتنقل من مكان إلى آخر طامعاً في الاقتراب من مقعده، وحين يلاصقه تقع عليه العيون فيرتبك في جلبابه الواسع ويعقد يديه ملتمساً الطمأنينة، ها هو بجواره، ها هو يرقبه لحظة يقرّب فمه إلى طرف الميكروفون، حين يضع يديه على أذنيه مجوداً آيات ربه، ولحظة ينقضي الليل وينفض المجلس ويذهب الشيخ إلى سحوره، يضيق صدر الفتى بما لم يتحقق ويعود منكسراً إلى سريره مردداً ” نهج البردة” في وحدته واثقاً أنه قادر على ترك الأثر ذاته الذي يتركه الشيخ الإمام في السامعين.
ينتصف رمضان والفتى غارق في حلمه
ينتصف رمضان والفتى يختلس دقائق خاطفة ليسأل الشيخ في استراحته عن كتابه ومواعظه، فيربت على كتفه سائلاً إياه عن اسمه ومدرسته.
ينتصف رمضان ويجرؤ الفتى على مصارحة الشيخ برغبته، كان الميكروفون هاجسه وساحره، ذلك الذي يكبر الصوت ويضخمه، هذه البطارية المهترئة التي تفعل المستحيل.. ما الذي يسكن داخلها؟ وفي ليلة لم يقل فيها لأمه وأخوته : ” انتظروا صوتي” منحه الإمام فرصته وحرك الميكروفون ناحيته ، فتصبب الفتى عرقاً وأخرج ورقته المطوية من جيبه، وألقى القصيدة بصوت مرتجف، كسر الوزن والقافية، وابتلع نصف الكلام في جوفه، كان يشعر بالآخرين وهم يحملقون فيه، خرجوا من النعاس الذي كان يدغدغ حواسهم ليستمعوا إلى الفتى الصغير الذي لم يتجاوز ارتباكه إلا حين تجاهل وجودهم، كان يخفض صوته تارة ويعلو به تارة أخرى، يعيد بيتاً مؤثراً، ويضغط على قافية السطور، وحين انتهى بدأت رعشة خجله وهو يرقب في عيني والده زهوه بالابن الجريء..
طرق باب البيت راقصاً من الفرح، فتحت أمه وهي تقاوم نعاسها، سألها عن رأيها، عن صوته الذي غطى سماء القرية الصغير، ارتجف وهو يحكي لها، لكنه لم ينم من الغيظ ليلتها لأنها لم تسمعه وهي التي بقيت ليالي طوالاً تترقب حلمه الصغير.
ضوء بعيد موزع بعناية
اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا
لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر
ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما
كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم
ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن
وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت