صديق المؤامرة


لم أستطع هذه المرة الهروب منه.
لم أستطع أن أنقذ روحي من عذاب مشاهدة فيلم معه، الجلوس بجواره واحتمال تعليقاته التي لا تتوقف فتفسد عليّ الصمت والمتابعة والتأمل، وحاولت أن أجد سبباً لأعتذر له، فأقسم أنه لن يتركني هذه المرة، ولن يشاهد الفيلم بمفرده، لأنه- على حد قوله- اشتاق كثيراً لمناقشاتنا “الثنائية” حول الفيلم ورسالته، وعندما وجدتني غارقاً في الوحل، وذاهباً معه لا محالة إلى السينما، رجوته اختيار الفيلم، وتعمدت أن يكون فيلماً رومانسياً خالياً من أية إشارات يمكن أن يستند إليها صديقي في تفسيراته القائمة على نظرية المؤامرة. أمام شباك التذاكر اخترت الفيلم الذي قصدته، قصة هادئة حالمة عن حب بين رجل وامرأة، وبعد ثلاث دقائق ونصف الدقيقة من البدء حاصرني صديقي- الناقم دائماً- بتعليقاته المريبة والمتشككة، فكتمت غيظي، وحاولت جاهداً أن أتابع الفيلم بريئاً من نظريته، وتحليلاته. ساعتان كاملتان، خرجت بعدهما وأنا في قمة غضبي، أكوّر قبضة يدي اليمنى وأكاد أرفعها في وجهه ليصمت، لكنه لم يفعل، وسألني:

– ما رأيك في الفيلم؟ – الحقيقة…. – فهمت عليك، الفيلم ليس كما تصورناه، ولا أدري لماذا اخترته؟ وأنا مثلك تماماً لم تنطل عليّ قصة الحب وهذه الإمكانات الهائلة في التصوير والجرافيك والإبهار، وأعرف أن الفيلم يحمل رسالة شريرة ضدنا، وضد ثقافتنا وتقاليدنا. – لكن الفيلم…. – فهمت عليك، الفيلم يرسخ فكرة البطل الأمريكي، والنموذج الفذ الذي لا يقدر عليه أحد، هل رأيت كيف أوقع الفتاة في شباكه، وكيف أحبته وتركت رجالاً عديدين غيره، وهل شاهدت كيف يقبلها ويحتضنها قبل الزواج؟ هل سمعته وهو يخاطبها عن حلمه بالسفر إلى كل بلدان العالم؟ هل يعتقد أصحاب الفيلم أننا سذج إلى هذا الحد؟ هو بالطبع لا يقصد السفر، بل يقصد السيطرة، وقهر العالم، واحتلاله. – الحقيقة أنا شايف إن الفيلم…. – فهمت عليك، لم يعجبك اسم الفيلم مثلي، لأنه يحمل دلالة شريرة، وأنت تعرف مثلي أن اسم “الحب دون مقابل” يعني أن الفيلم يريد أن يقول إن ما تفعله أمريكا في كل مكان في العالم ليس من أجل مقابل ما، وإن هدفها هو نشر قيم الحب من أجل الإنسانية. – يا صديقي الفيلم في جوهره قائم على….. – فهمت عليك، جوهر الفيلم مملوء بالسموم ويسعى إلى تحطيمنا نفسياً، رسالته الخبيثة تقول إن البطل الأمريكي وحده هو القادر على الحب بهذه الصورة النقية، أما القبلة التي طبعها البطل على خد حبيبته عندما بكت لحظة وداعه في منتصف الفيلم ليست قبلة بريئة، إنها سخرية موجهة إلينا لأنهم يعرفون أننا نضع قبلاتنا على الخد كنوع من التقدير والاحترام. – الحقيقة أنا شايف إن….. – فهمت عليك، أنا شايف أيضاً أنها مؤامرة كبيرة على عقولنا، وما يغيظني حقاً هو أن البسطاء الذين يشاهدون هذه الأفلام يعتقدون أنها بريئة ويتحدثون ببراءة عن عظمة هذه الأفلام فنياً.. – لكن الفيلم…. – نعم.. نعم.. فهمت عليك، الفيلم لا يقصدنا نحن العرب فقط، بل يوجه رسالة مدمرة إلى كل شعوب العالم، بدءاً بنا، مروراً بالصين، واليابان، وكوريا الشمالية، وجمهوريات الاتحاد السوفييتي، وحتى آخر نقطة على الكرة الأرضية، فليس معقولاً أبداً أن ينتجوا هذا الفيلم لمجرد أنه قصة حب جميلة. – بصراحة أنت تفسر الأمور بطريقة…. – فهمت عليك، هذه مشكلتي دائماً، أنني أفسر الأمور بطريقة صحيحة وواقعية، المؤامرة أعرفها من أول كلمة، ولديّ حاسة سادسة تستشعر الخطر، والخبث. كنتُ أسير بجواره وأنا أختنق، وقبضة يدي تهتز بجواري راغباً كل لحظة في أن ألطمه بها على وجهه، وأن أطرحه أرضاً، وأخنقه بلا رحمة. توقفتُ ونظرت إليه بغيظ، فبادرني قائلاً: – فهمت عليك.. فهمت عليك.. الفيلم ضايقك كما ضايقني، أرى ذلك في وجهك وعينيك، فلا تغضب يا صديقي، ولا تحرق دمك، غداً أعوضها لك وأدعوك إلى فيلم آخر. حينها لم أستطع أن أوقف قبضة يدي اليمنى التي طارت في الهواء واستقرت على وجهه، فانكمش مذهولاً أمام حيرة الذين شاهدوني أمضي بعيداً، وأنا أتمتم في غضب: “فهمت عليّ.. فهمت عليّ”!!

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Default thumbnail
المقالة السابقة

بعيداً عن ..البندار

Default thumbnail
المقالة التالية

أرز الملائكة

اخر المقالات من سيرة الحنين والفوضى

THE VOICE OF ENIGMA

بالأمس قررت أن أكون وحيداً مع صوت “إنيجما”، قررت أن أكون مخلصاً لها لمرة واحدة، وفي