صائد التفاصيل

  الجحيم في التفاصيل، ربما..

وأولئك الذين يعيشون بذاكرتهم البصرية قد يكونون في لحظة ما أتعس من يمشي على الأرض، لأنهم لا يتحررون ـ في حال الفقد والحنين إلى الماضي ـ من حصيلة ما يحملونه ويطاردونه من تفاصيل، فإذا بالموهبة التي كانت يوماً مصدر فرح، تنقلب إلى شجرة أشواك مدببة في عيونهم وقلوبهم، وإن شاهدوا مكاناً بكوا على ما عاشوه فيه، وإن صادفوا وجهاً له حضور من غاب تقطعت شرايينهم في استدعاء ما لا يجيء، وإن عبرت هواءهم نفحة عطر مشابه، انقبضت الرئتان حسرة وحنيناً، كأن أولئك وهؤلاء ممن احترفوا جمع التفاصيل الصغيرة من الأماكن والوجوه، كانوا يجمعون ـ دون أن يدركوا ـ حطب الأفران التي تشتعل ساعة ينزل الستار، وتنطفئ الأنوار، وينسحب كل من كان حاضراً إلى عتمة الغياب

الغياب محفز قوي على استعادة التفاصيل، الغياب قطار بملايين العربات المحملة بأشياء الماضي وحكاياته، الغياب مؤامرة ضد الخلايا العصبية لجامعي التفاصيل وعشاقها، الغياب لا يكون جحيماً أبدياً إلا لهؤلاء الذين ظنوا يوماً أن جمع التفاصيل نعمة وموهبة، فمضوا خلف جنونهم “الجميل” أطفالاً عاشقين، يقفزون خلفها كأنما يقفزون خلف فراشات ملونة في حقول وسيعة. ؟

الجحيم في التفاصيل، ربما..

والعاشق المغرم لا يستريح في يومه إلا حين يحصي في الليل مقدار ما امتلأت به سلال قلبه من تفاصيل امرأته، هنا ابتسمت ثم أزاحت خصلة شعر من فوق حدود عينيها، وهنا فاجأته بدعابة ثقيلة عن قصد لتستفزه فيكشف لها عن طفولته في الغضب، وفي عيد ميلاده جهزت له قالب الحلوى وغنت من قلبها وهي تزهو بما استطاعت أن تفعله لأجل وحيدها، تقول له: “لا تنكر.. اليوم دللتك كما لم يدللك أحد من قبل”، فيرد على رقصة الفرح في عينيها”: “لم يكن قبلك أحد”.

يذهب العاشق عميقاً في ذاكرته، يقلب أشجار التفاصيل في حدائق روحه، يتذكر بساطتها الأولى، خجلها الممزوج باللطف، تعلقها بالسرد الذي يلقيه أمامها كأنما يلقي بحصاد العمر مرة واحدة وأخيرة، يقف أمام تداخل الألوان ودرجاتها أينما ذهب، ويتمتم بينه وبين صمته: هذا اللون لون فستانها الأول، وهذان اللونان التقيا في قميص لها، وهذا لون حذائها، يتذكر.. ويحصي.. ويرتب تفاصيل ما جمع منها، في هذا المكان بكتْ حين أخذه العناد إلى كلمة جارحة، وفي هذا الشارع سألته: “هل تحب عطري الجديد؟” وعلى طاولة هذا المطعم أجبرته على إنهاء وجبته، وللوقت شجر من التفاصيل، التواقيت ثمار معلقة في الرقبة، يقطفها حين يستبد به الحنين، كأنما لكل ساعة من ساعات اليوم اسم جديد، ومعنى جديد، لا يقول كما يقول الناس “الساعة الثامنة والنصف صباحاً”، ويقول: “الساعة ساعة الاستيقاظ على صوتها”، لا يقول: “السادسة مساء”، يقول: “ساعة سؤالها: هل أكلت شيئاً”، لا يقول: “الساعة السابعة والثامنة والتاسعة”، له ساعاته معها، وهي من تصنع للوقت دورته، ساعة تقول: “أحبكَ”، وساعة تقول: “اشتقت إليكَ”، وساعة تضحك.. وتغضب.. وتعاتب.. وتحن.. وترق. ؟

الجحيم في التفاصيل، ربما..

لكن النعيم في التفاصيل أيضاً، حين يحفظ العاشق عن امرأته ما لا تعرفه هي عن ذاتها، عن حركة يديها، عن وقع المفاجأة على وجهها، عن ضوء خفيف يمر في بياض عينيها لحظة يغرد طائر الحب في قلبها، عن النغمة الخافتة في صوتها، عن القلق حين يتخفى في الكلام، والخوف الذي تفشل في رده، عن الأمل في ضحكة طاغية، وقلة الحيلة في شرود وتنهيدة حارقة. ؟

الجحيم في التفاصيل، ليس دائماً..

لأن امرأة وهبت روحها لإيقاظ طفولة العاشق، لا يجوز له أن يراها بعينيه كما يرى غيرها، فقلبه عين، وروحه عين، وخلفها كأنما يكاد يهذي: “النعيم في التفاصيل”، وكلما غاب في حضورها شيء مما حفظ عنها، نثرت في حقول ذاكرته شجراً وارفاً من فيض تفاصيلها.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

ليست مجرد امرأة

المقالة التالية

اعتذارات لمن يستحقها

اخر المقالات من تأويل جميلة

في البدء كانت جميلة

في البدء كانت الكلمة، ربما، لكنني أظن أنه في البدء كانت النظرة، وكانت جميلة، كأن ترى

اعتذار الفراشة

أحط بين يديك يا جميلة، لأعتذر عن حماقة صاحبي، جناحاي معطلان، جناحاي ثقيلان بالذنب حتى ترضين،

ليست مجرد امرأة

– اكتب، قل شيئاً، أي شيء، أكمل روايتك اليتيمة، لا تترك رقبتي هكذا دون جوهرة تليق