شياطين اللثة



على قدر ما بيننا من الكراهية توطدت علاقتنا في مساءات الغربة، وصار حضورها في تمام الثانية بعد منتصف الليل موعداً للألم الخرافي الذي يبدأ صغيراً متفرقاً أسفل عظمة الفك الأيسر، ثم تتجمع قوى الألم في إيقاع منظم يجعل الرأس ساحة لحرب من طرف واحد، إذ تفشل كل محاولاتي في إخماد صوت المدافع والقنابل المتفجرة هناك في عمق اللثة البعيد.
هكذا تستيقظ شياطين عصب الأسنان في موعدها حين أهم بقراءة كتاب أو تسجيل خاطرة مارقة أوحت لي بها الأضواء الخافتة خلف الزجاج، أو حين أقرر مشاهدة فيلم قديم ادخرته لاستعادة ذكرى باهتة.
ليالٍ طويلة وهي تجيء دون إذن مسبق، تدخل عفاريت الأسنان من بوابة صنعتها عبر مخاوفي من عيادات أطباء الأسنان، ومن الاستلقاء على ( الشيزلونج ) المتحرك الذي يعلق عيني في سقف غرفة باردة وفمي مفتوح أمام أشكال دقيقة من آلات الحفر التي تبحث عن ضالتها في جدار ضرس متهالك.

في كل مرة أقرر أن أذهب للطبيب أتراجع وأستريح للتأجيل حاملاً في جيب قميصي أقراص المسكنات، لكنني فجأة وجدتني في ليلة قريبة عاجزاً عن احتمال يقظة الشياطين، كانت الزيارة غريبة إذ لم يبدأ الألم تدريجياً كعادته، انفجر مرة واحدة، كأنما حريق ملتهب اشتعل في دمي، قاومت الدخول في حرب المسكنات لدقائق، فامتدت الحرائق إلى أعلى الرأس، وبدا أن كل شيء صار مستحيلاً..لا وقت لأية رغبة.. ولا إغراء ممكنا لرائحة القهوة والسجائر.
سقط الاتفاق الممكن والمحتمل في علاقتنا، وخرجت شياطين العصب عن حدود صداقتنا القديمة، وجاءتني هذه المرة بما لا طاقة لي على احتماله، كنت في هذياني تحت وطأة الألم أتحسر على خسارتي الفادحة لصداقة دامت شهوراً، فإذا بي اليوم اكتشف حماقتي: كيف أثق في عدوٍ يسلبني حرية النوم.. والتدخين.. والاستمتاع بالقهوة الساخنة التي بردت على طرف المكتب؟
في الثامنة صباحاً كانت دفاعاتي وحصوني قد انهارت، وراياتي البيضاء ترفرف عالياً فوق هزائمي، والعلب الملونة لأقراص المسكنات والمهدئات احتلت المكتب والسرير، ونقمتي بلا حدود على فرشاة الأسنان والمعجون المستورد الذي لم يقدم لي سوى تلك الرائحة المنعشة التي لا تساوي الآن شيئاً.
هدني السهر فابتلعت قرصين من المهدئات بحثت فيهما عن ساعة نومٍ واحدة استيقظت بعدها على الهاتف مستغيثاً بالطبيب.
ذهبت إليه راغباً لأول مرة في الاستلقاء على ( الشيزلونج )عارضاً عليه أن يخلصني من هذه الفكرة المجنونة التي هيأت لي صداقة معذبة بيني وبين شياطين العصب، بعد قليل علّق الطبيب عينيه بالضوء الساقط على وجهي، وقال بنبرة حاسمة: لا حيلة لنا اليوم.. عليك أن تضحي بأصدقائك.
أومأتُ له موافقاً، وحين بدأت حقنة المخدر تتسلل إلى دمي كانت نبضات الألم تتراجع بينما تصحو حواسي ثانية على رائحة القهوة والتبغ التي تجيء من بعيد فأحن إليها حنين عاشق افتقدهما ليلة واحدة.. طويلة.
في الليلة التالية كنت أنعم بالصمت والحذر اللذين تخلفهما الحروب عادة، وأنا أراقب في توتر حركة عقرب الساعة – وهو يتحرك ببطء باتجاه الثانية صباحاً، كنت أخشى يقظة الألم ثانية رغم الحفرة الصغيرة التي فصلت بين أسناني شاهدة على غياب إحداها
نام عقرب الساعة على الثانية صباحاً.. ولم تنفجر رأسي ثانية، أيقنت لحظتها أن هدنة من السلام حلت أخيراً.. وفي انتظار إعلان حالة حرب جديدة هيأت نفسي لسهرة طويلة.. أجمل ما في تخيلها الاطمئنان إلى ما بعدها من استدعاء النوم.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Default thumbnail
المقالة السابقة

مزدحم كقطار سائقه أعمى

Default thumbnail
المقالة التالية

أبوالعباس.. أبو الرجال

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم

أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت