– سكسكة.. مات
في هذه اللحظة التي أكتب فيها عن “سكسكة” كم وديعة استردها الله، لكننا لا نبلغ حد التأثر والأسى إلا على من نعرفهم، إلا على أولئك الذين وقعت عيوننا على وجوههم، وسكنت أصواتهم أعماقنا، وشاركونا لحظات ولو خاطفة في قطار الحياة، ومصدر الحزن والأسى رحيلهم أولاً، وحدث الموت كقدر حتمي ثانياً، وربما ثالثاً هو حزننا على أنفسنا، حزننا على كوننا على قائمة الغياب.
– سكسكة..مات
قالها لي الزملاء علاء نصار وأحمد معوّض ومحمد الجداوي في نَفَس واحد، وفي إيقاع جنائزي واحد، في اللحظة التي كنت أهم فيها بالتقاط رشفة من فنجان قهوة الصباح، لم يكن “سِكْسِكة” صحفياً أو شاعراً أو شخصية شهيرة جمعتني بها ظروف العمل أو دروب الأحلام المشتركة، لكنه كان مثلي ومثلك إنساناً، كان إنساناً حقيقياً ضاحكاً كطفل كبير بقلب مسكون بالطيبة، طويل القامة والوجه، عيناه غائرتان كنافذتين مفتوحتين على أحلام بعيدة، رأيته مرات قليلة في زمن مضى حين كان لدي من الوقت ما يكفي لأذهب إلى مقهى الأنفوشي في شارع الجوازات لأتتبع تفاصيل الأمكنة والناس، في ذلك الزمان كان “سكسكة” يأتي مهللاً حين يراني بصحبة رفاقي، يمسح الطاولة ويلقي فوقها بالسلام، وآخر ما حفظه من الدعابات قبل أن يسألنا عمّا نريد، كان يسبقنا في الضحك على ما قاله، يطلق ضحكته الخارجة للتو من القلب، ويستدير كجندي تلقى أوامرنا بالرضا والبهجة، كان يعامل زبائنه كجنرالات لا يرد لهم طلباً حتى لو طلبوا منه حمل العشاء إليهم من المطعم المجاور، وكثيراً ما سألت نفسي عن معنى اسمه “سِكْسِكة”، ولم تشفع لي حيلتي، ولم يصل بي تأويلي إلا إلى احتمال ارتباط الاسم أو اللقب بنبرة صوته الحادة التي تشبه الصفير أحياناً، وربما هو لقب حصل عليه منذ امتلك القدرة على أن يمنح زبائنه بهجة مجانية حين يغني أو حتى يتمايل مع إيقاع الموسيقى، كان ماهراً في صنع الفرح للآخرين بلا مقابل، كأنما هي خدمة يسقطها من حساباته حين يقف بجوار الطاولة عند دفع الحساب.
– مات سكسكة
أراد أن يسافر ليزوّج ابنته، حجز له مقعداً في الحافلة ليسافر براً، فمثله تقصم تذكرة الطائرة ظهره وجيبه، وحين جهز حقائبه وهداياه للأهل والابنة التي تنتظر أباها، حين كان قاب قوسين أو أدنى من مقعده في الحافلة مسافراً من أبوظبي أُصيب بجلطة أجّلت سفره وأرغمته بعد أيام على اختيار الطائرة ليوفر على نفسه المتاعب ويتجنب الخطر، وهناك بين الأهل في القاهرة، أرهق قلبه وجسده في الإعداد للفرح والزفاف، ونالت الابنة ما حلمت به من السعادة، وعندما أتم سكسكة ما عليه كأب، عندما هدأ البال، واطمأن القلب، ورأى ابنته في ثوب زفافها الأبيض، عندها أخذته الجلطة الثانية، أغلقت عيناه إلى الأبد، مات بعد أن أنهى مهمته التي سافر من أجلها.
– قهوة مظبوطة.. وحجر تفاح
لن يقولها سكسكة ثانية، لم يبق سوى وجهه وصوته في ذاكرة من مرّوا به، من عرفوه ضاحكاً، ومن لمحوا على وجهه طيبته.. وإنسانيته.
– قهوة مظبوطة.. وحجر تفاح
كأنما كان ينادي على الحقيقة التي نهرب منها، كأنما يقول لنا ولنفسه إن الحياة رشفة من فنجان.. ورائحة لا تبقى طويلاً، ربما هو الآن يعرف أكثر منا الطمأنينة في الموت.. فيما نبقى نحن في وهمنا الكبير نبحث عن الطمأنينة في الحياة.