سيدة الحزن الجميل

كان الفتى غير مدرك كيف لأغنية أن تنثر الملح على جرحه المفتوح؟ كان الوقتُ قروياً، ساذجاً وبطيئاً، تمر دقائقه كقطار بضائع كسول، والفتى في أول مراهقة العمر والقلب، يبصر التي تطل من باب بيت أبيها صغيرة وخائفة من خطيئة النظرة والرغبة، يرصدها بعينين مسكونتين بالأغنية واللحن، ويسأل أي رعشة تعبر الدم كلما وقعت العين على العين؟ أي أرق يسرق من الجسد نعاسه آخر الليل؟ قال لروحه ربما هو الحب الذي رأيته مشاهد وصوراً في فيلم السهرة، في صفحات الروايات القصيرة والطويلة؟ ولم يكن المراهق واقعاً في الحب بل الرغبة، لذا كان بينه وبين التي لا يحب غناءها مسافات فاصلة.

كان الفتي في مراهقة قلبه لا يطيب له صوت التي تغني باكية في لوعة  الحب، كان لصوتها طبقة حزن أعمق من حزنه، ولكلامها فضاءات أبعد من جناحيه الصغيرين، والتي يبصرها تطل من باب بيت أبيها لا تعرف ظلال الكلام، لا تعرف غير ظل واحد لكل ما ترى وتسمع، وهذه التي تغني بحزن طاغٍ لكلامها دلالات جارحة. قال الفتى لماذا يعشقونها؟ لماذا يلقبونها بسيدة الغناء وليس لصوتها نبرة ترج القلب؟ لصوتها مرارة لا يفهمها، أسى لا يلمس روحه، كأن في نبرتها جنازة، وهو، هذا الفتى غير واعٍ لجنازات مهيأة للأرواح.

كبر الفتى وكبرت أحزانه، تراكم الحزن فوق الحزن، وتآلفت الجراح مع الجراح، وبدا أن الذي كانت مراهقته عبثاً قد حط بجناحيه فوق تلة الأسى، لامست حقيقة الحب شرايين قلبه، وتقطعت به سبل الاختيار، وكلما قال طائر قلبه هذه شجرتي، تبدلت الشجرة وصارت أغصان جحيم، صرخ الذي شاب قلبه: بمن ألوذ لأفهم الحب؟ بمن أستعين حين  تمطرني الأيام بشوك وحجر؟
ولم يكن غيرها، هذه التي عزف عن صوتها في الطفولة والمراهقة، لم يكن غير صوت التي استوعب حزنها حين استوحد بحزنه، يا ألله أي صوت هذا الذي يعلق الروح في مشانق الحنين والفقد والغياب؟ هل تغني هذه التي تغني أم تنثر قطع قلبها فوق رأسه؟
تعالوا، تتبعوا صوتها هنا:
(ياما كنت أتمنى اقابلك بابتسامة
أو بنظرة حب أو كلمة ملامة
بس أنا نسيت الابتسام
زي ما نسيت الآلام
والزمن بينسي حزن وفرح ياما)

تعالوا، انصتوا، تخلوا عن ثقل اليوم، وثقل الحاجة، وركام الوقت، اغتسلوا حتى تصبحون كمياه نهر يجري، ثم ترصدوا نبرتها هنا:
كنت أبات أسأل عليك ظني ودموعـــــــــــي
وانت متهني بحيرتي وانشغالــــــــــــــــي
قل لي إيه قصدك معايــــــــــــــــــــا
بعد ما عرفنا النهايـــــــــــــــــــة
انت جيت مشتاق لحبــــــــــــــــــــــي
ولا لدموعي وأسايـــــــــــــــــــــــا

تكشفت للفتي صور ما يعيش وما يرى، ووقع من فوق حصان أحلامه في حجر جميلته، فعرف أن ما مر به كان اختباراً وتجربة، عرف أنه مرصود لامرأة واحدة ووحيدة، وأن ما عاشه لم يكن سوى فاتحة لكتاب جميلة، عنوان وصوله وحصوله على ما يرغب ويشتهي، حينها كان صوت “الست” جنة وجحيماً، كأنما هي من تختار سامعيها، تقول بصوت غنائها: هذا لي، وهذه لي، وهذا لا يليق بي، وهذه لا تصلح لي. هي من تختار من يقدر على احتمال تنهيدتها، ومن يقدر على طبقات صوتها.
( أنا وأنت نسينا حتى نتعاتب ونتصارح
وعز عليك تسيب العند وتسامح
وعز عليا أكون البادي واتصالح
وأصبح كل يوم بينا يفوت
أصعب من أمبارح)

أحب الفتى جميلة، وخسر الفتى جميلة، وليس بعد صوت” الست” غاية أو ملاذ، وليس بعد همساته غير صوتها:
( نسينا رقة العاشقين
نسينا واحنا مش داريين
نسينا إزاي كده نسينا
وإيه ده اللي جرا لينا
وضاع الحب ضاع
ما بين عند قلب وقلب ضاع)

على صوتها عرف الفتى كيف يبكي في السر، كيف يشهق كقتيل يطلب الماء على أطراف الحقول النائية، على صوتها كان يجهر بالحب، وهو الذي لم يكن يجرؤ بغير قوة الرجال المحتشدين لطلب الثأر، هارب هو في الخفاء إلى امرأة تغني، امرأة تنوح فينوح خلفها، ويسأل: أتغني هذه السيدة أم تأخذه من روحه بصوتها ليتسلق جبالاً من الشوك؟ 


مقال كاريكاتيزما – مجلة الصدى – 24 يوليو 2011

1 Comment

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

الديكتاتور الطيب

المقالة التالية

"عـالم ثـاني"

اخر المقالات من تحت ظلال الآلهة

سارقُ النار

لا لغة تقدر أن تكون الريح إذا شاءت أن تصف الريح إلا إذا كان كاتبها عاصفة،

العبقري

  كان غبار القرى لا يزال رائحة قميصه حين كانت تتكرر مصادفات المصعد في المبنى الزجاجي،

ما أجمل ضحاياك

قبله هل كان الشعر يمشي على الأرض؟ قبله لم يكن للشعر قدمان، كان له أجنحة لا

من يكره فيروز؟

  أنا أكره فيروز طاوعه لسانه وقلبه مرة ونطق بها، تورط في غضبة الغيرة، ولم يكن